تبرزُ زراعة الأعضاء اليوم كواحدة من أنبلِ الإنجازات الطبيَّة، إذ تجمع بَيْنَ عظَمة العِلم وروح الإيثار الإنساني. فكم من مريضٍ كان يحتضر على سرير المَرض، لِينقذَه مُتبرِّع كريم بقطعة من جسَدِه، أو حتَّى بحياتِه بعد الوفاة، فيُصبح ـ بعد أن كان ينتظر الموت ـ شاهدًا على معجزة جديدة للحياة. وفي سلطنة عُمان، حيثُ تجتمع الأصالة مع الطُّموح نَحْوَ مستقبل طبِّي مُشرِق، تتعزَّز ثقافة التَّبرُّع بالأعضاء كقِيمةٍ نبيلة ومشروع وطني مدعوم بأحدَث ما توصَّل إِلَيْه العِلم.
حيثُ تُشير الإحصاءات العالَميَّة إلى أنَّ مريضًا واحدًا يُضاف كُلَّ عشر دقائق إلى قوائم انتظار زراعة الأعضاء. فيما يموت كُلَّ يوم حوالي سبعة عشر شخصًا بسبب نقصِ المُتبرِّعِين. أمَّا في سلطنة عُمان، فقَدْ قطَعتِ البلاد شوطًا كبيرًا في مواجهة هذا التَّحدِّي، حيثُ بلغَ عددُ المُسجَّلِين للتَّبرُّع بالأعضاء عَبْرَ تطبيق «شفاء» أكثر من أحدَ عشرَ ألفَ شخصٍ بحلول نهاية عام 2023، وهو رقم يعكس تصاعُد الوعي المُجتمعي بشكلٍ مشجِّع. ولا يقتصر الأمْر على الأرقام فحسب، بل يُعَبِّر عن قصَّة نُضجٍ اجتماعي وفَهْمٍ عميق لأهميَّة العطاء الإنساني.
كيف لا؟ وإجازات سلطنة عُمان في مجال زراعة الأعضاء ليسَتْ وليدةَ اللَّحظة، فقَدْ أُجريتْ أوَّل عمليَّة زراعة كُلى ناجحة عام 1988م. ومنذُ ذلك الحين تطوَّر البرنامج الوطني بشكلٍ ملحوظ. خلال عام 2023م، تمَّ إجراء سبع عشرة عمليَّة زراعة كُلى بنجاح، وتمَّ لأوَّل مرَّة تنفيذ عمليَّة نقْلِ كُليتَيْنِ من مُتبرِّعِين مُتوفّين دماغيًّا بَيْنَ مستشفيَيْنِ مختلفَيْنِ في السَّلطنة، حيثُ نقلتْ كُلْية واحدة إلى المستشفى السُّلطاني والأخرى إلى مستشفى جامعة السُّلطان قابوس، ممَّا يجسِّد مدَى احترافيَّة الفِرق الطبيَّة والتَّقدُّم في تقنيَّات النَّقل السَّريع وحفظ الأعضاء ـ الحمد لله ـ.
بطبيعة الحال، التَّبرُّع بالأعضاء يفتحُ آفاقًا جديدة في العلاج. فعلى سبيل المثال، تُشير الدِّراسات الحديثة إلى أنَّ معدَّل بقاء الكُلى المزروعة من مُتبرِّع حيٍّ لِمُدَّة عشر سنوات يتجاوز خمسة وسبعين بالمئة، بَيْنَما الكُلى المزروعة من مُتبرِّع مُتوفَّى تحقّق نسبة بقاء تصلُ إلى خمسة وستين بالمئة، وذلك حسب الإحصاءات المنشورة في الجمعيَّة الأميركيَّة لزراعة الأعضاء. وهذا ـ إن صحَّ القول ـ يعني أنَّ فرصة المريض بالعيش حياةً كاملة بعد الزِّراعة أصبحتِ اليوم أكثر واقعيَّة من أيِّ وقتٍ مضَى.
وفي إطار الدَّعم المؤسَّسي، جاءتِ العناية السُّلطانيَّة المُلهِمة والمُتابعة المستمرَّة من لدُنْ جلالة سُلطان البلاد ـ حفظه الله ورعاه ـ فأصدرَ المرسوم السُّلطاني في أبريل 2025 لِينظِّمَ بوضوحٍ عمليَّة التَّبرُّع وزراعة الأعضاء، ويوفِّر إطارًا قانونيًّا يَضْمن الحقوق، ويحفظ الكرامة الإنسانيَّة، ويكفل النَّزاهة الطبيَّة، مستجيبًا لأعلى المعايير الأخلاقيَّة العالَميَّة، ومنسجمًا مع أهداف رؤية «عُمان 2040» نَحْوَ نظام صحِّي أكثر شموليَّة واستدامة.
ورُبَّما هنا تبقَى القصص الواقعيَّة أبلغ من الأرقام. فطفلة صغيرة كانتْ تُعاني من فشلٍ كبدي حادٍّ تمَّ إنقاذ حياتها بفضل تبرُّع من مُتبرِّع مُتوفَّى، واليوم تركض بسعادة بَيْنَ أقرانها في المدرسة. وأب كان يواجِه شبَح الغسيل الكُلوي يوميًّا، وعادَ لحياتِه الطَّبيعيَّة بفضل زراعة كُلْية جديدة، لِيحتفلَ بالعيد مع أبنائه. لذلك هذه القصص ليسَتْ استثناءات، بل دليل حيٌّ على أنَّ قرار التَّبرُّع هو القرار الَّذي باتَ الآن يصنع الفَرق الأكبر في عصرنا هذا!
ولعلَّنا نرَى من وقتٍ لآخر كيف أنَّ التَّبرُّع لا يُعِيد الحياة فقط للمريض، بل ينقذ أُسرًا بأكملِها من ألَمِ الفقدِ وفوضى المَرض المُزمن. كيف لا؟ والتَّبرُّع بالأعضاء هو امتداد للحياة، وهو العطاء بعد الرَّحيل، بل هو رسالة أمل ـ إن صحَّ التَّعبير ـ تكتبها الأيدي الَّتي لا تزال تنبض بالرَّحمة حتَّى بعد أن يتوقفَ القلب عن النَّبض!
وهكذا في سلطنة السَّلام والوئام، نرَى اليوم جيلًا جديدًا من الشَّباب الواعي المستعدِّ للتَّبرُّع، مدفوعًا بالعِلم والوعيِ والدِّين الحنيف الَّذي يحثُّ على إنقاذ الأرواح. ويكفينا أن نتذكرَ قول الله تعالى: (ومَن أحياها فكأنَّما أحيا النَّاس جميعًا)، لِنَعِيَ عظَمة هذا العمل الإنساني.
ختامًا، هكذا نُدرك بأنَّ التَّبرُّع بالأعضاء ليس مجرَّد موضوع طبِّي، بل هو إعلان انتصار للإنسانيَّة في أبْهَى صُوَرها. ومن خلال الدَّعم السُّلطاني غير المحدود، والتَّوَجُّه الصحِّي الحكومي المتمثل في وزارة الصحَّة العُمانيَّة، والتَّوعية المُجتمعيَّة المستمرَّة، والبنية الصحيَّة المتطوِّرة، تتَّجه عُمان بثقة لِتصبحَ نموذجًا إقليميًّا في مجال زراعة الأعضاء. وعَلَيْه، دعونا جميعًا نؤمن أنَّ كُلَّ واحدٍ مِنَّا يحمل بداخله قدرة غير محدودة على إنقاذ حياة الآخرين، وأنَّ قرارنا بالتَّبرُّع هو نُور يمتدُّ لِمَا بعد حدود الزَّمن، وأثَرٌ خالد يظلُّ محفورًا في قلوب مَن نُعِيدُ إِلَيْهم الحياة!
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي