ضجَّة كبيرة سيطرتْ على الرَّأي العامِّ في مصر الفترة الماضية، عقب قرار الحكومة بإغلاق سلسلة محالّ شهيرة للمأكولات، وصلَ عددُ فروعها في محافظات مصر لأكثر من (160) فرعًا وعدَّة مصانع وسلاسل توريد، وعشرات الفروع في (9) دوَل عربيَّة، الحكومة أعلنتْ أنَّ سبب الإغلاق حملات رقابيَّة صحيَّة كشفتْ وجود بكتيريا ممرضة، تسبِّب التَّسمُّم الغذائي، الأمْر الَّذي استدعى إغلاق نشاط العلامات التجاريَّة، خرج المدير التَّنفيذي للسلسلة في أحَد البرامج التليفزيونيَّة الشَّهيرة، يستغيثُ برئيس الجمهوريَّة، ويتعهد بتنفيذ أيِّ اشتراطات صحيَّة تطلبها الجهات المختصَّة، ولوَّح بـ(25) ألف عامل توظِّفهم السِّلسلة في مصر والدوَل العربيَّة، مُعرَّضين للتَّشرُّد في حال استمرَّ الإغلاق، رافضًا الإجابة عن سؤال مذيع البرنامج عن مصدر أموال الشَّركة.
استجاب الرَّئيس وأوعز للحكومة أن تجتمعَ مع مسؤولي الشَّركة لتسويةِ الأزمة، وانتهى الاجتماع بمعاودة استئناف عمل الفروع، بعد تعهُّد الشَّركة بتنفيذ الاشتراطات الصحيَّة، وسداد (135) مليون جِنيه ضرائب متأخرة، دُونَ التَّطرُّق للاتِّهامات الَّتي تُلاحق الشَّركة بالتَّضخُّم المالي، ومجهوليَّة مصادر رأس المال، والصُّعود السَّريع والتَّوَسُّع الدَّاخلي والخارجي غير المنطقي. فقَدْ بدأتِ الشَّركة الَّتي أسَّسها طبيب بيطري حديث التَّخرُّج، بمحلٍّ صغير لبيع منتجات الألبان بمدينة الإسكندريَّة في العام 2021، أتبعه بمعمل صغير لصناعة الحلويات التقليديَّة المصريَّة، وتضخَّمتِ الشَّركة حتَّى صار لها فروع في دوَل الخليج والمغرب، الشَّركة تمَّ تسجيلها خارج مصر في أحَد الملاذات الآمنة، وفي الخارج تظهر أسماء ملَّاك غير معروفين، الأمْر الَّذي يضع علامات استفهام حَوْلَ مصادر تمويل الشَّركة، وهل هي عمليَّة غسيل أموال؟! أم أموال مُودِعِين مُتعدِّدين، في إعادة إنتاج لظاهرة «الريَّان» أو»المستريح» الَّذي يَقُوم بجمع الأموال من المواطنين وتوظيفها مقابل أرباح تفوق فوائد البنوك. وعرفتْ مصر ظاهرة «توظيف الأموال» في نهاية السبعينيَّات، فبعدَ حرب أكتوبر 1973م، أعلن السَّادات سياسة الانفتاح على العالَم، في الوقت الَّذي تضاعفتْ فيه أسعار البترول، بعد استخدام دوَل الخليج سلاح النِّفط ضدَّ الدوَل المسانِدة لـ»إسرائيل»، وحدَث انتعاش كبير في مداخيل الدوَل النِّفطيَّة، صاحبَها نهضة تنمويَّة ومشاريع إنشائيَّة، استعانتْ بالأيدي العاملة المصريَّة من أطبَّاء ومُعلِّمِين، وعمَّال مهرَة، حتَّى الفلَّاحين المصريِّين، استعانَ بهم العراق لاستصلاح آلاف الأفدنة بَيْنَ ضفَّتَي دجلة والفرات، وتدفَّقتْ تحويلات المصريِّين العاملين في الخارج على ذويهم في مصر، واحتار كثيرون مِنْهم في كيفيَّة استثمار مدَّخراتهم، فقَدْ كانتْ فوائد البنوك ضعيفة، وتيار ديني متنامٍ في تلك الفترة، أفتى بحُرمة فوائد البنوك، ووصفَها بالربويَّة. تلقَّف أحمد الريَّان وكان ـ أيضًا ـ طبيبًا بيطريًّا، الفكرة وراح يجمع الأموال بزعم التَّوَسُّع في التِّجارة، مقابل فائدة (20%)، انتظم في إعطائها حتَّى انهالتْ عَلَيْه طلبات المُودِعِين، حتَّى وصلَ حجم الأموال الَّتي جمعها لـ(3) مليارات دولار، كان يستخدمها في تجارة العملة والذَّهب والمضاربة في البورصة، وغرق الريَّان في شلَّال الأموال الضَّخمة المُتدفِّقة عَلَيْه، في غياب إدارة ماليَّة محايدة، أو ضبط محاسبي، وكان يعطي الفوائد من الإيداعات الجديدة. تأثرتِ البنوك المصريَّة بعد أن هجرَها المُودِعون، ولجأتْ إِلَيْه الحكومة لِتَمويلِ صفقة استيراد ذرة صفراء «علف للدَّواجن» عجزتِ الحكومة عن تدبير العملة الصَّعبة لها، بعدَها طلبتْ مِنْه الحكومة مليار دولار لصالحِ الاقتصاد القومي المتداعي، وافقَ ولكنَّه اشترطَ إعطاءه مليار جِنيه مصري يُعِيدُها عِندَما تُعِيد الحكومة المليار دولار بعد خمس سنوات، الأمْر الَّذي استفزَّ حكومة عاطف صدقي، الَّتي قرَّرتْ فتح ملف توظيف الأموال، وسجن الريَّان بعد أن عجزَ عن ردِّ أموال المُودِعَين.
محمد عبد الصادق
كاتب صحفي مصري