تعيش مدينة غزَّة في قلبِ هذا الجرح المفتوح الَّذي يتَّسع بمرور الزَّمن، جرح تسكن فيه الحكاية الَّتي لا تنتهي عن شَعب يُذبح على مرأى ومسمع العالَم بلا خجَلٍ أو رحمةٍ. فالعدوان الصُّهيوني على القِطاع لم يكُنْ مجرَّد معركة عابرة أو ردِّ فِعل كما تزعم آلة الكذب الإعلاميَّة الصُّهيونيَّة والغربيَّة، بل كان فِعل إبادة مُمنهجًا، يستهدف اقتلاع شَعب بأحلامه وجذوره من أرضه، غير أنَّ الكارثة لم تقفْ عِندَ حدود الدَّم المسفوك، بل امتدَّتْ إلى ما هو أعمق وأشدّ فتكًا، حيثُ يتمُّ ضرب أُسُس التَّنمية والاستقرار في المنطقة كُلِّها.. فغزَّة ليسَتْ وحْدَها الَّتي تدفع الثَّمن، فكُلُّ مشروع بناء، وكُلُّ فكرة نهضة، وكُلُّ حلم بمستقبل عربي أفضل، يتهاوى مع كُلِّ صاروخٍ يُطْلَق، ومع كُلِّ قنبلة تمطر فوق رؤوس الأبرياء.. ففي الوقت الَّذي يُدفن فيه الأطفال تحت الرُّكام، تُدفن معه فرص الشُّعوب العربيَّة في التَّحرُّر من قبضة السِّلاح والفقر والتَّخلُّف، في مشهدٍ لا لَبْسَ فيه يكشف حجم الخُبث المرسوم خلْفَ هذا العدوان. لم يكُنْ غريبًا أنْ ترتفعَ نفقات الدَّم والسِّلاح مع تصاعُد نيران العدوان، فقَدْ كشفَ مركز أبحاث دولي معنيٌّ بالأمن أنَّ عام 2024 شهدَ ارتفاعًا تاريخيًّا في الإنفاق العسكري العالَمي بنسبة (9.4%) مقارنةً بالعام السَّابق، لِيصلَ إلى مستوى قياسي بلغ (2.72) تريليون دولار، في أكبر قفزة سنويَّة منذُ عام 1988. وطبيعي أنْ تتصدرَ الولايات المُتَّحدة ـ الحامي الأكبر لِدَولة الاحتلال الصُّهيوني ـ هذه القائمة السَّوداء بإنفاق بلغ (997) مليار دولار، بزيادة (5.7%) عن عام 2023، ولم تكُنْ هذه الأرقام مجرَّد مصادفة بريئة، بل جاءتْ نتيجةً مباشرة لتغذيةِ الحروب المفتعلة، وعلى رأسها العدوان المستمرُّ على غزَّة، الَّذي استُخدم كذريعةٍ لضخِّ المزيد من الأموال إلى مصانع الموت.. فكُلُّ دولار يُنفق على السِّلاح هو رصاصة جديدة تُطْلَق في صدر الإنسانيَّة، وكُلُّ صفقة جديدة هي توقيع إضافي على عُقود قتلِ الأطفال، لا في فلسطين وحْدَها، بل في كُلِّ حلم عربي يسعَى للخروج من دائرة الدَّمار. دَولة الاحتلال الصُّهيوني نَفْسُها كانتِ المثالَ الأكثر فجاجةً على هذه الحقيقة المؤلمة؛ فنتيجة عدوانها الوحشي على غزَّة وصراعها المفتوح مع حزب الله في جنوب لبنان، قفزَ إنفاقها العسكري بنسبةٍ مُرعبة بلغتْ (65%) خلال عام 2024، لِيصلَ إلى (46.5) مليار دولار، ذلك غير الدَّعم الأميركي، الَّذي فتحَ مخازن السِّلاح أمام العدوان الصُّهيوني، وفي ذات الوقتِ يعوّض تلك الأموال من الجيوب العربيَّة بفرض حربِ تسليح، تهدر مقدَّرات التَّنمية لدَى سكَّان المنطقة.. وبهذا الانتفاخ المسعور لميزانيَّة الحرب، تقدَّمتْ دَولة الاحتلال إلى المرتبة الـ(12) عالَميًّا بعدما كانتْ تحتلُّ المركز الـ(14) في العام السَّابق. هذه الأرقام لا تفضح فقط حجم الإجرام، بل تفضح أيضًا كيف أنَّ الكيان الصُّهيوني يعيش ويتنفَّس بالحروب، ويتغذَّى على خراب الآخرين. فكُلُّ صاروخ يسقط فوق غزَّة لا يُحرِّك ضمير العالَم، بل يُحرِّك أسواق السِّلاح، ويزيد أرباح الشَّركات، ويؤكِّد أنَّ وجود هذا الكيان لم يكُنْ يومًا من أجْلِ السَّلام، بل من أجْلِ إبقاء المنطقة رهينةً للدَّمار والخراب المستمرَّيْنِ. منذُ زرعتْ أميركا وأحلافها الغربيُّون كيان الاحتلال الصُّهيوني الغاصب في قلبِ الشَّرق العربي، والمنطقة لم تعرفْ طعمَ الرَّاحة ولا ملامح المستقبل، فكانتِ الخطَّة واضحةً منذُ البداية، وهي تمزيقُ الجغرافيا، وقَتْلُ التَّاريخ، وسرقةُ المستقبل. وما الحربُ على غزَّة اليوم إلَّا استمرار لهذا المُخطَّط القذر الَّذي لا يستهدف فقط الأرض الفلسطينيَّة، بل يستهدف كُلَّ مشروع نهضة عربي.. فبَيْنَما تَبنِي الأُمم الحيَّة مدارسها ومصانعها، تُرغَم منطقتُنا على بناء جدران وأسوار وأساطيل عسكريَّة. إنَّه استنزافٌ مقصود لمقدَّراتنا، وخنقٌ متعمَّدٌ لأحلام شُعوبنا، وكُلَّما ارتفع الإنفاق العسكري، انخفض الإنفاق على التَّعليم والصحَّة والتَّنمية، وتقلَّصتْ مساحاتُ الأمَلِ أمامَ أجيالٍ كاملة وُلِدَتْ لِتَجِدَ نَفْسَها حطبًا لحروبٍ لا ذنْبَ لها فيها سوى الأطماع الصُّهيوـ أميركيَّة. وفي وَجْه هذا الواقع الأسود، تبقَى غزَّة رمزًا للصُّمود، ومرآةً تكشف لنَا الحقيقة المُرَّة، وهي أنَّ معركتَنا ليسَتْ فقط مع رصاص الاحتلال، بل مع عقليَّة استعماريَّة تريد أنْ تُبْقيَنا أسْرَى الدَّمار إلى الأبد.