تَسير سلطنة عُمان بخُطًى واثقة نَحْوَ تَبنِّي نهج الاقتصاد الدَّائري، واضعةً نصْبَ عَيْنَيْها التَّحوُّل من مجرَّد إدارة النّفايات إلى استثمارها كمَوردٍ اقتصادي ذي عائد مزدوج بيئي واستثماري. وتُعبِّر ندوة (إعادة تدوير خردة الألمنيوم) الَّتي استضافتها مسقط مؤخرًا عن هذا التَّوَجُّه عمليًّا، حيثُ جمعتْ تحت سقفٍ واحد نخبةً من صنَّاع القرار، والخبراء، وروَّاد الصِّناعة لمناقشةِ سُبل تحويل ما كان يُعَدُّ سابقًا مخلَّفات صناعيَّة، إلى فرص نُموٍّ مستدام.. فهذا التَّوَجُّه لا ينبع فقط من رؤية بيئيَّة، بل هو تعبيرٌ عن استراتيجيَّة وطنيَّة شاملة تسعَى لإعادة تعريف علاقة الدَّولة بالموارد، فخردة الألمنيوم لم تَعُدْ عبئًا، بل أصبحتْ جزءًا من منظومة إنتاجيَّة متكاملة تفتح أبوابًا للاستثمار، وتُخفِّف الأثَر البيئي لصناعة الألمنيوم المعروفة باستهلاكها العالي للطَّاقة، وهي خطوة تتواءم مع توجيهات حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ بالوصول للحيادِ الصّفري الكربوني بحلول ٢٠٥٠. وما يُعزِّز هذا الطَّرح هو ما تبذله الجهات التَّشريعيَّة والتَّنظيميَّة في سلطنة عُمان من جهود جبَّارة خلال السَّنوات الأخيرة، وذلك بالتَّنسيق مع شركاء من القِطاعَيْنِ الحكومي والخاصِّ، حيثُ أطلقتْ سلطنة عُمان سياسة وطنيَّة متكاملة لإدارة النّفايات، أعقبَتْها بإصدار اللَّائحة الوطنيَّة لِتَنظيمِ تصدير المواد القابلة للتَّدوير مِثل الألمنيوم والنُّحاس والحديد، كما تعمل الجهود الوطنيَّة العُمانيَّة حاليًّا على وضعِ اللَّمسات الأخيرة على مشروع قانون شامل للنّفايات، يُراعي أبعاد الاستدامة ويخلق بيئة قانونيَّة جاذبة للاستثمار الأخضر.. وضِمْن هذا الإطار، تمَّ الإعلان عن الاستراتيجيَّة الوطنيَّة لإعادة التَّدوير، الَّتي تهدف إلى تمكين القِطاع الخاصِّ، ودعمِ المؤسَّسات الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة، وتحفيز روَّاد الأعمال الشَّباب على دخول هذا المجال، فهذه الخطوات تُعزِّز من تنافسيَّة السُّوق المحلِّي، وتمنحُ سلطنة عُمان فرصةً لِتكُونَ مركزًا إقليميًّا في هذا المجال، خصوصًا في ظلِّ الطَّلب المتزايد عالَميًّا على المعادن المُعادِ تدويرُها. في قلبِ هذه الرُّؤية الطَّموحة الَّتي تنطلق من رؤية «عُمان ٢٠٤٠»، يبرز قِطاع الألمنيوم كحالةِ دراسةٍ مثاليَّة لِمَا يُمكِن أنْ تُحدثَه إعادة التَّدوير من تغيير نَوعي في الاقتصاد الصِّناعي. فالألمنيوم يتمتَّع بخاصيَّة نادرة، وهي قابليَّته لإعادة التَّدوير غير المحدودة دُونَ أنْ يفقدَ خصائصه الفيزيائيَّة أو الكيميائيَّة، ما يعني إمكانيَّة دائرته الاقتصاديَّة بلا نهاية. والأهمُّ من ذلك أنَّ إعادة تدويره تستهلك طاقة أقلَّ بنسبة (95%) مقارنةً بصناعتِه من الخام، وهذه الحقيقة وَحْدَها كفيلة بتحويل القِطاع إلى رافعة اقتصاديَّة مستدامة، وهو ما أدركَتْه شركة صحار ألمنيوم، الَّتي بدأتْ منذُ العام الماضي في تعزيز قدراتها التَّدويريَّة، بإعادة تدوير (3500) طن في عام 2024، وتُخطِّط للحفاظِ على هذا المستوى أو زيادته في 2025، فهذا الإنجاز لا يُقاس فقط بالوزن، بل بالأثَر المُضاعَف الَّذي يُحدثُه على البيئة، وسلاسل التَّوريد، والوظائف الخضراء، والاستثمارات المستقبليَّة. ولأنَّ التَّدوير لا ينفصل عن المنظومة الاقتصاديَّة الأوسع، فقَدْ ناقشتِ النَّدوة الأخيرة جوانب السِّياسات التجاريَّة، وحوافز الاستثمار، ودَوْر الشَّراكات بَيْنَ القِطاعَيْنِ العامِّ والخاصِّ في تسريع التَّحوُّل نَحْوَ اقتصاد دائري، فالطُّموح العُماني يتعدَّى إعادة تدوير الخردة محليًّا، لِيصلَ إلى استهداف دَوْر إقليمي كمركزٍ لوجستي وصناعي لإعادة تدوير المعادن في الخليج العربي، مستفيدًا من الموقع الجغرافي الاستراتيجي العُماني.. وهذا يتطلب، بطبيعة الحال، تجاوز التَّحدِّيات اللوجستيَّة، وتحفيز التِّجارة الدَّاخليَّة، وتَبنِّي أدوات تمويل خضراء، وهو ما طُرح بوضوح في جلسات النَّدوة.. ومن خلال دمج الابتكار، ودعم المؤسَّسات الصَّغيرة، ومواءمة السِّياسات مع المعايير البيئيَّة العالَميَّة، تتهيَّأ السَّلطنة لأنْ تكُونَ نموذجًا يُحتذَى به في إدارة النّفايات كأصلٍ اقتصادي، بهذا النَّهج لا تَبْني السَّلطنة اقتصادًا فحسب، بل تُعِيد صياغة علاقتها بالموارد والكوكب.