في ذاكرة التعليم بظفار، أسماء خالدة، كتبت سيرتها على جبين الزمان بأفعالها لا بأقوالها، ومن بين هذه الأسماء يبرز اسم الأستاذ عوض بن عيسى بن محفوظ الشيخ، المربي الفاضل، والمُعلِّم الرائد، الذي لم يكن مجرد موظف في مؤسسة تعليمية، بل كان مشروعًا متكاملًا في بناء الإنسان، وهو سليل أسرة علم وزهد وتصوف عرفت بالفضل والعمل النبيل في ظفار وحضرموت. كتب قصة من قصص نجاحه في حي البيوت الشَّعبية الذي كان مجاورًا لقصر الرباط بمدينة صلالة، في زمن لم تكن فيه المدارس سوى مبانٍ بسيطة بلا أبواب، وأحيانًا بلا طاولات أو كراسٍ. كنَّا أطفالًا نلعب في فناء مبنى مهجور، بني ليكون مدرسة لأبناء الحي، وكان يطل على مزارع الحصيلة وبساتينها، وعلى مقربة من قصر جلالة السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ الذي كان يزورنا من حين لآخر، ويطمئن على أحوال الأهالي، ويصدر توجيهاته السامية لتأمين حياة كريمة لهم. في أحد تلك الأيام، وفي لحظة لا تُنسى، أقبل شاب على دراجة نارية، يرافقه طفلان وحمولة من الورق والكتب والأدوات المدرسية. ترجّل من دراجته بكلِّ وقار، وسلَّم علينا، ثم طلب منَّا أن نساعده في تنظيف الغرف التي تحوَّلت لاحقًا إلى حجرات دراسية. لم يكن ذلك الشاب سوى الأستاذ عوض بن عيسى بن محفوظ الشيخ، الذي عُيِّن مديرًا ومُعلِّمًا لمدرسة «البيوت الشَّعبية»، والتي عُرفت لاحقًا باسم مدرسة محمد بن القاسم الثقفي. منذ اللحظة الأولى، أدركنا أننا أمام شخصية تربوية استثنائية. كان أبًا قبل أن يكون مديرًا، وكان قدوة قبل أن يكون مُعلِّمًا. بوجهه الهادئ، وصوته المطمئن، كان يغرس فينا القِيَم، ويُعلِّمنا المسؤولية، ويمنحنا الحُب دون حدود. كنَّا نحن الطلاب نقوم بكل مهام المدرسة: التنظيف، الحراسة، وحتى تنظيم الطابور الصباحي. لم يكن ذلك عبئًا، بل شعور بالمسؤولية والانتماء. ولم يقتصر عطاؤه على الأيام الدراسية، ففي الإجازات الصيفية كان يدفعنا إلى تسجيل أسمائنا في برنامج القفز الدراسي» التسريع»، وهو الأسلوب الذي ساعد المجتهدين منا على اختصار المراحل الدراسية، فأنهينا تعليمنا العام في تسع سنوات فقط بدلًا من اثنتي عشرة سنة. كثيرون منَّا واصلوا تعليمهم وتخرجوا من الجامعات، وصاروا أعلامًا في ميادين التعليم والهندسة والطب والجيش وفي مجالات التنمية المختلفة. تدرَّج الأستاذ عوض في المهام والوظائف التربوية المختلفة حتى صار مديرًا لشؤون التعليم بمحافظة ظفار، يتولى على عاتقه مسؤولية جسيمة لنشر التعليم في البادية والجبل والمدن، فانتشر التعليم في جميع أنحاء محافظة ظفار كبقية محافظات ومناطق سلطنة عُمان، وفي غضون سنوات قليلة تم تصفير الأُمِّيَّة تمامًا من جميع المناطق. استمر الأستاذ عوض يعطي بسخاء من جهده وعقله ومن ماله في أحيان كثيرة وكان صوته حاضرًا في كل تطوُّر تعليمي شهدته المحافظة. لكنه لم ينسَ يومًا أنه مُعلِّم، وأن رسالته الأولى كانت بناء الإنسان. ما زلت كلَّما التقيته في مناسبة عامة، أنحني لتقبيل يده تبجيلًا ليس مجاملة ولا تزلفًا، بل اعتراف بفضل رجلٍ أيقظ في أجيال عديدة الإيمان بالعلم والعمل، وترك بصمة لا تُمحى في أرواحنا وعقولنا.
د.أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية