تمرُّ هذه الأيَّام الذِّكرى السَّبعون لتأسيس حركة عدم الانحياز، والَّتي تأسَّستْ في اجتماع قادة الدوَل المؤسِّسة الأوَّل في مدينة باندونج الإندونيسيَّة بتاريخ الـ(١٨) من أبريل، واختتمتْ بتاريخ الـ(٢٥) من أبريل عام ١٩٥٥م بحضور (٢٩) دَولةً كانتْ تتطلع إلى تفعيل هذا المُسمَّى السِّياسي (عدم الانحياز) في وقت كانتِ الحرب الباردة بَيْنَ المعسكرَيْنِ الغربي الرَّأسمالي والشَّرقي الشُّيوعي قائمة على أوجها، وذلك بعد أن أفرزتِ الحرب العالَميَّة الثَّانية نظامًا دوليًّا جديدًا ثنائي القطبيَّة بَيْنَ الولايات المُتَّحدة والاتِّحاد السوفيتي، كما تمَّ تأسيس منظَّمة الأُمم المُتَّحدة قَبل ذلك بعشرِ سنوات في عام ١٩٤٥م. وما أجدر العالَم أن يحتفيَ اليوم بهذه المناسبة التَّاريخيَّة المُهمَّة بتأسيس حركة عدم الانحياز الَّتي ضمَّ مؤتمرها الأخير (١٢٠) دَولةً، لكنَّها ـ للأسف ـ لم تتمكنْ من إحداث نقلةٍ تاريخيَّة في اتِّجاه الأمن والسِّلم الدّولي أو إحداث تكتُّل عالَمي للضَّغط على القوى العالَميَّة الَّتي ما زالتْ تُحكم سيطرتها على العالَم وتُمارس الظُّلم والإرهاب الدّولي بحقِّ الدوَل والشُّعوب.. فهل غياب الزَّعامات التَّاريخيَّة أفقدتْ هذه المنظَّمة العالَميَّة قدرتها على التَّغيير ومنْعِ انحراف بوصلة العدالة الدّوليَّة في ظلِّ ما يحدُث اليوم في مختلف أرجاء العالَم، وخصوصًا ما يحدُث في فلسطين المُحتلَّة والعدوان الآثم على الأبرياء في قِطاع غزَّة؟! وهل يُمكِن أن تستعيدَ المنظَّمة دَوْرها الفاعل على خريطة السِّياسة الدّوليَّة؟ حركة عدم الانحياز دائمًا تؤكِّد على أهميَّة إحياء مبادئها العشرة الَّتي ما زالتْ صالحة حتَّى وقتنا الحاضر رغم وجود عددٍ من المتغيِّرات السِّياسيَّة المتباينة منذُ تأسَّستِ الحركة في منتصف الخمسينيَّات مرورًا بالأزمات العالَميَّة الَّتي شهدتها مرحلة الحرب الباردة، وصولًا إلى تفكك الاتِّحاد السوفيتي عام ١٩٩١م ليتحوَّلَ النِّظام العالَمي من ثنائي إلى أحادي القطبيَّة، وإلى جانب حركة عدم الانحياز برزَ عددٌ من المنظَّمات الدّوليَّة الإقليميَّة في القارَّات الثَّلاث المُشَكِّلة لهذا المؤتمر كالآسيان والاتِّحاد الإفريقي وجامعة الدوَل العربيَّة والتَّعاون الإسلامي ومنظَّمة الدوَل الأميركيَّة في أميركا اللاتينيَّة ومجموعة البريكس الَّتي تشكَّلتْ في عام ٢٠٠٩م وضمَّت عددًا من الدوَل ذات الاقتصادات الصَّاعدة على الخريطة العالَميَّة. وهذه المنظَّمات القاريَّة ـ فيما عدا (بريكس) ـ قد لا تفي بالهدف السِّياسي المنشود في مواجهة تداعيات الاستقطاب العالَمي أو تحقيق المبادئ الإنسانيَّة والعدالة الدّوليَّة أو مجابهة الظُّلم والإرهاب الدّولي، وخصوصًا ما تَقُوم به (إسرائيل)؟! فيما تُشكِّل حركة عدم الانحياز قوَّة لا يُستهان بها؛ لكونها ثاني منظَّمة دوليَّة ينضوي تحت مظلَّتها أكبر عدد من الأعضاء والَّتي يُفترض أن تسعَى لإحداث توازن في نظام الأُمم المُتَّحدة وتتصدَّى لمواجهةِ انحراف النِّظام العالَمي، إلَّا أنَّ ذلك لا يتوافر لحركة عدم الانحياز دُونَ توافر الإرادة السِّياسيَّة اللازمة الَّتي تتوازى مع مبادئها، تلك المبادئ الإنسانيَّة الَّتي تُعبِّر عن احترام حقوق الإنسان وميثاق الأُمم المُتَّحدة، واحترام سيادة الدوَل والمساواة بَيْنَها، وعدم التَّدخُّل في شؤونها الدَّاخليَّة، واحترام حقِّ الدوَل في الدِّفاع عن نَفْسها، وعدم استخدام أحلاف الدِّفاع الجماعيَّة في تحقيق مصالح الدوَل الكبرى، وعدم ممارسة الضُّغوط على الدوَل الأخرى، والامتناع عن التَّهديد أو العدوان أو استخدام القوَّة ضدَّ السَّلامة الإقليميَّة أو الاستقلال السِّياسي لأيِّ دَولة، وكذلك الحلُّ السِّلمي لجميع الصِّراعات الدّوليَّة وفقًا لميثاق الأُمم المُتَّحدة، وتعزيز المصالح المشتركة والتَّعاون المتبادل بَيْنَ الدوَل، واحترام العدالة والالتزامات الدّوليَّة، كُلُّ هذه المبادئ السِّياسيَّة الرَّصينة الَّتي تأسَّستْ عَلَيْها حركة عدم الانحياز ما زالتْ صالحةً حتَّى اليوم، بل ينبغي تفعيلها في ظلِّ وجود هذا التَّجمُّع العالَمي الَّذي كان له صوت قوي في اجتماعات الأُمم المُتَّحدة، وخصوصًا في مناصرة القضيَّة الفلسطينيَّة كقضيَّة رئيسة ارتبطتْ بها الحركة منذُ تأسيسها. وهنا ينبغي التَّأكيد على أهميَّة تفعيل حركة عدم الانحياز كحركة فاعلة تبحثُ عن المصالح العُليا للدوَل النَّامية والنَّأي بها عن الصِّراعات والاستقطابات والأحلاف المؤثِّرة على الاستقرار العالَمي؛ باعتبار أنَّ حركة عدم الانحياز تُمثِّل تكتلًا عالَميًّا يضمُّ أكثر من ثُلثَي دوَل العالَم تتَّفق على مبادئ إنسانيَّة نبيلة، إضافة إلى أنَّها تُشكِّل ما يقرب من (٥٥%) من سكَّان العالَم، وتمتلك إمكانات سياسيَّة واقتصاديَّة تستطيع من خلالها التَّأثير على السِّياسة الدّوليَّة، كما تمتلك دوَل عدم الانحياز إجمالًا (٧٥%) من احتياطي النِّفط العالَمي، و(٥٠%) من احتياطات الغاز في العالَم، إضافةً إلى إمكانات كبيرة من الطَّاقات البَشَريَّة والموارد الطَّبيعيَّة، ممَّا يعني قدرة حركة عدم الانحياز على القيام بِدَوْرها الإنساني وإنقاذ العالَم من بعض السِّياسات. لا سِيَّما وأنَّ العالَم اليوم يمرُّ بمتغيِّرات جيوسياسيَّة ـ اقتصاديَّة كبيرة. لذا تَظهر أهميَّة هذه المنظَّمة الدوليَّة وأهميَّة تفعيل دَوْرها السِّياسي والاقتصادي العالَمي بشكلٍ يُحقِّق العدالة الدّوليَّة ويُسهم في بناء الأمن والسِّلم الدّوليَّيْنِ، والحفاظ على استقلال الدوَل وتجنُّب الاستقطابات الضَّارَّة. لقَدْ حقَّقَ المؤسِّسون الأوائل منجزًا عالَميًّا بتأسيس مؤتمر عدم الانحياز، إلَّا أنَّ ما يُميِّز تلك المرحلة الزَّمنيَّة في الخمسينيَّات هو وجود قيادات تاريخيَّة كبيرة اتَّفقتْ حَوْلَ مبادئ سياسيَّة مشتركة مع بروز مواقف جماعيَّة دوليَّة تتَّجه نَحْوَ التَّحرُّر من نير الاستعمار، فكانتْ مرحلة الخمسينيَّات والستينيَّات حافلةً بالتَّأثير، وكانتِ العديد من الدوَل تتطلع إلى نَيْلِ حُرِّيَّتها واستقلالها، وكان الرَّأي العامُّ في العديد من الدوَل يُناضل من أجْلِ تحقيق ذلك الحلم، وتحقيق العدالة الاجتماعيَّة والدّوليَّة والمساواة في الحقوق. لذا فقَدْ عُدَّ زعماء تلك المرحلة المؤسِّسون الكبار للحركة أبطالًا مُحرِّرين داعمِين لاستقلال الدوَل والشُّعوب، وكان على رأس أولئك الزُّعماء الزَّعيم جَمال عبدالناصر والرَّئيس اليوغسلافي جوزيف تيتو ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو والرَّئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو الَّذي استضافتْ بلاده القمَّة الأُولى في مِثل هذا التَّاريخ من عام ١٩٥٥م لِيشهدَ ميلاد هذه الحركة، إضافةً إلى الرَّئيس الغاني نكروما وعدد من الزَّعامات الدّوليَّة الَّتي حقَّقتْ في أقاليمها حراكًا سياسيًّا مرموقًا، لذلك تُمثِّل دوَل عدم الانحياز اليوم ثقلًا في ميزان السِّياسة الدّوليَّة إنْ أحسنتِ المنظَّمة اليوم تفعيل أدوارها نظرًا لتلك المعطيات وعناصر القوَّة الَّتي تتوافر لهذه المؤسَّسة الدّوليَّة وأهميَّة وجود منظَّمة دوليَّة من هذا النَّوع لإحداث توازن عالَمي، ولكن تبقى الإرادة السِّياسيَّة الدّوليَّة هي المرتكز الحقيقي الَّذي قد يُبنى عَلَيْه كُلُّ تلك الآمال والتَّطلُّعات. الدوَل الَّتي تضمُّها هذه المنظَّمة الدّوليَّة ينبغي أن تستشعرَ القِيمة والأهميَّة الجماعيَّة لها، وأهميَّة مبادئها الإنسانيَّة الَّتي ترتكز عَلَيْها، ممَّا يستدعي اليوم ـ أكثر من أيِّ وقتٍ مضَى ـ تفعيلها لِتَحقيقِ قِيَم المساواة والعدالة في النِّظام الدّولي المعاصِر الَّذي يبدو أنَّ ملامح تغيُّراته بدأتْ تطفو على المسرح السِّياسي الدّولي القادم. ومع أنَّ الدوَل الـ(٢٩) الَّتي اجتمعتْ في مؤتمر باندونج عام ١٩٥٥م لا تمتلك نظريًّا القوَّة الَّتي تمتلكها الدوَل الـ(١٢٠) الَّتي تُشكِّل هذه المنظَّمة الدّوليَّة اليوم، إلَّا أنَّ الإرادة الَّتي امتلكها أولئك الزُّعماء المؤسِّسون الأوائل كانتْ كفيلةً بإحداث التَّأثير والتَّوازن العالَمي في مجابهة نظام القطبيَّة ومساندة القضايا العادلة، بَيْنَما يقفز الاستعمار الجديد اليوم من النَّافذة الخلفيَّة لِتَجميدِ أيِّ حراك دولي مسانِد للقضايا العادلة. تأتي القضيَّة الفلسطينيَّة والعدوان المتواصل على قِطاع غزَّة كحدَثٍ عالَمي يتطلب استنفارًا عالَميًّا لمجابهةِ هذا التَّغوُّل الصُّهيوني المدعوم من الامبرياليَّة الأميركيَّة وحماية الأبرياء الَّذين يتعرضون للقتلِ اليومي من أجْلِ تنفيذ مآرب الصهيونيَّة، فهل تستطيع دوَل المنظَّمة تحقيق تلك التَّطلُّعات والآمال في هذه المرحلة الزَّمنيَّة الدَّقيقة؟ أم أنَّ العالَم مشلول الإرادة ويحتاج إلى قيادات بحجم تلك القيادات الَّتي ظهرتْ في الخمسينيَّات والستينيَّات من القرن الماضي للتَّخلُّص من ربقة الاستعمار الجديد الَّذي يجثم على كاهل العديد من دوَل العالَم الثَّالث!! لكن يبقى الأملُ بتغيير عالَمي قد يكُونُ وشيكًا في ظلِّ ما يحدُث من تقلُّبات سياسيَّة واقتصاديَّة، وأحداثٍ عالَميَّة متسارعة تتوالَى بقوَّة مبشِّرة بإحداث التَّغيير لصالحِ السَّلام والاستقرار والعدالة الدَوليَّة.
خميس بن عبيد القطيطي