الأحد 01 يونيو 2025 م - 5 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن: زيارة تحدث تحولا استراتيجيا فـي سياق عالمي متغير

الثلاثاء - 22 أبريل 2025 05:51 م

رأي الوطن

50

جاءتْ زيارة «دَولة» الَّتي قام بها حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى جمهوريَّة روسيا الاتِّحاديَّة كعلامةٍ فارقة في مسار السِّياسة العُمانيَّة الحديثة، لا سِيَّما وأنَّها الأُولى من نَوْعها منذُ توَلِّي جلالته مقاليد الحُكم.. فالاستقبال الرُّوسي الَّذي اتَّسم بالحفاوة البروتوكوليَّة، لم يكُنْ مجرَّد واجب دبلوماسي، بل رسالة واضحة تعكس تقدير موسكو لعاهل البلاد المُفدَّى وحكمته، ولعُمان كدَولةٍ ذات ثقلٍ استراتيجي في منطقة الخليج، فاللَّقاء الخاصُّ بَيْنَ جلالة السُّلطان وفخامة الرَّئيس فلاديمير بوتين، وكذلك المباحثات المُوَسَّعة، عكستْ رغبة الطَّرفَيْنِ في الانتقال من مستوى العلاقات الجيِّدة إلى شراكة استراتيجيَّة متكاملة، فالتَّحوُّل في اللَّهجة الروسيَّة ـ من مجرَّد التَّعاون إلى التَّركيز على بناء تحالفات ـ يعكس إدراك الكرملين بأنَّ عُمان وقائدها ليسا رقمًا صغيرًا في المعادلة الإقليميَّة، بل صوتُ عقلٍ وازن يُمكِن الرِّهان عَلَيْه في ملفات تتجاوز الإقليم إلى المسرح العالَمي.

ومن بَيْنِ المؤشِّرات القويَّة على عُمق التَّفاهم بَيْنَ الطَّرفَيْنِ، توقيع اتفاقيَّات ثنائيَّة شملتْ مجالات بالغة الأهميَّة، بعضها يحمل دلالات اقتصاديَّة مباشرة، مِثل التِّجارة والطَّاقة، وأُخرى تمَسُّ البنية الأساسيَّة الثَّقافيَّة والإنسانيَّة، مِثل التَّعليم والإعلام، ومن أبرز هذه الاتفاقيَّات، الاتِّفاق المُتبادل على إلغاء تأشيرات الدُّخول لحاملي جوازات السَّفر العاديَّة، وهو ما يعكسُ ليس فقط مستوى الثِّقة، بل أيضًا الرَّغبة في تسهيل حركة الأفراد والتَّقريب بَيْنَ الشَّعبَيْنِ، كما أنَّ اتِّفاق إنشاء لجنة مشتركة للتَّعاون التِّجاري والاقتصادي والفنِّي يضع الإطار المؤسَّسي لعلاقة طويلة الأمد، قائمة على التَّخطيط والتَّكامل لا الاجتهاد المؤقت، وتشمل الاتفاقيَّات أيضًا مجالات كـمصائد الأسماك والتَّنمية المستدامة والسِّياحة، ما يُبرز اتِّساع رقعة المصالح المشتركة وتنوُّعها، فهذا الطَّيف الواسع من التَّفاهمات لا يعكسُ فقط الإرادة السِّياسيَّة، بل يفصح عن وجود رؤية استراتيجيَّة شاملة تُدرك أهميَّة التَّحوُّل من التَّعاون القِطاعي إلى التَّنسيق الشَّامل مُتعدِّد المستويات.

التَّحليل العميق لطبيعة اللِّقاءات والاتفاقيَّات يكشفُ أنَّ الزِّيارة تتجاوز إطار العلاقات الثُّنائيَّة لِتُوَجِّهَ رسائل إلى الإقليم والعالَم؛ فعُمان، بسياساتها المتَّزنة وحيادها الذَّكي، ترسِّخ موقعها كجسرٍ آمِن بَيْنَ التَّكتُّلات المتباينة، وتوقيت الزِّيارة ـ في ظلِّ اشتداد الاستقطاب العالَمي بَيْنَ الشَّرق والغرب ـ يعكس قدرة السَّلطنة على المناورة الهادئة وبناء التَّوازنات، دُونَ أنْ تنجرَّ لصدامات أو محاور. ومن جانب روسيا تأتي هذه الزِّيارة لِتؤكِّدَ أنَّ موسكو تُراهن على شركاء موثوقِينَ بعيدًا عن الضَّجيج، وتبحثُ عن موطئ قدَمٍ استراتيجي في الخليج من بوَّابة غير تقليديَّة.. أمَّا من جهة عُمان فإنَّ اختيار روسيا كوجهةٍ لأوَّل زيارة «دَولة» يعكسُ قراءةً عميقة للواقع الجيوسياسي، ورغبةً في تنويع الشُّركاء وتوسيع شبكات المصالح خارج النَّسق الغربي التَّقليدي.. وفي هذا السِّياق، تُصبح الزِّيارة تمثيلًا حيًّا لسياسة خارجيَّة مَرِنة وصُلبة في آنٍ واحد.

اللافتُ في مضامِين المحادثات بَيْنَ القيادتَيْنِ أنَّها لم تقتصرْ على الاقتصاد والطَّاقة، بل انفتحتْ على جوانب ثقافيَّة وتعليميَّة وإنسانيَّة، في تأكيد أنَّ العلاقة المنشودة بَيْنَ موسكو ومسقط لا تقتصر على المكاسب المادِّيَّة، بل تشمل القِيَم المشتركة والتَّواصُل الحضاري، فهذا التَّوَجُّه يعكسُ وعيًا عُمانيًّا بأهميَّة بناء جسور التَّفاهم مع القوى الكُبرى من خلال الهُوِيَّة والثَّقافة والتَّعليم والإعلام، وليس فقط من خلال التِّجارة والطَّاقة، كما أنَّ الانفتاحَ الرُّوسي على هذا النَّمط من التَّعاون يعكسُ رغبة موسكو في تصحيح صورتها وتوسيع نفوذها عَبْرَ قنوات ناعمة تتجاوز القوَّة العسكريَّة أو الاقتصاديَّة، وذلك في ظلِّ التَّحدِّيات العالَميَّة المتزايدة، من الأزمات المناخيَّة إلى اضطرابات النِّظام الدّولي، يُصبح التَّحالف القائم على المبادئ الإنسانيَّة أكثر استقرارًا وأقلَّ هشاشةً. من هنا تكتسبُ زيارة جلالة السُّلطان المُعظَّم أبعادًا تتجاوز اللَّحظة السِّياسيَّة؛ لِتصبحَ نواةً لعلاقةٍ تَقُومُ على العُمق الحضاري والمصالح المتبادلة والاحترام المتبادل.