الثلاثاء 13 مايو 2025 م - 15 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : الجرائم فـي سلطنة عمان .. ما الدلالات وراء ما تحكي عنه الأرقام والإحصائيات؟

في العمق : الجرائم فـي سلطنة عمان .. ما الدلالات وراء ما تحكي عنه الأرقام والإحصائيات؟
السبت - 19 أبريل 2025 01:41 م

د.رجب بن علي العويسي

70

كشف الادِّعاء العامُّ مشكورًا في مؤتمره السَّنوي لعام 2024 عن ارتفاع جميع الجرائم الأكثر تسجيلًا في 2024 مقارنة بعام 2023، حيثُ تصدَّرتْ جرائم الاحتيال بزيادة (67%)، حيثُ بلغ عدد جرائم الاحتيال بـ(3) آلاف و(202) قضيَّة. تلتها جرائم قانون العمل بنسبة (64%)، وجرائم إقامة الأجانب بنسبة (46%)، فيما ارتفعتْ جرائم الشّيكات بنسبة (15%)، كما سجَّلتْ جرائم غسل الأموال والاختلاس ارتفاعًا ملحوظًا، حيثُ بلغ إجمالي قضايا غسل وتهريب الأموال (173) قضيَّة.

ولعلَّ هذه المؤشِّرات باتَ تقرأ السيناريو المعتاد في تصنيف الجرائم ولكنَّ هذه المرَّة مع تغيير في المسار، فعلى الرَّغم من أنَّ الجرائم الواقعة على الأموال والَّتي تمثِّلها جرائم الاحتيال والشّيكات وغسيل الأموال والاختلاس وغيرها من الجرائم الدَّاخلة ضِمن هذا التَّصنيف، حافظتْ على تصدّرها في المشهد العُماني حيثُ جاءتْ جرائم الشّيكات في المرتبة الأُولى للجرائم الخمس الأكثر حدوثًا خلال العام الماضي بـ(8) آلاف و(461) قضيَّة، كما سجَّلتْ دائرة قضايا الأموال العامَّة وقضايا غسل الأموال في عام 2024 إجمالي (192) قضيَّة، مِنْها (33) قضيَّة جنائيَّة و(159) قضيَّة جنحة، وتضمنتْ هذه القضايا ملفَّات تتعلق بشبكات الاحتيال الَّتي تُعَدُّ جرائم أصليَّة مرتبطة بغسل الأموال، ممَّا يعكس التَّحدِّيات المستمرَّة في مكافحة الجرائم الماليَّة، وتعزيز الرَّقابة القانونيَّة على الأنشطة الاقتصاديَّة المشبوهة؛ إلَّا أنَّ تصدر الجرائم المخالفة للقوانين في المشهد الجرمي في سلطنة عُمان من حيثُ حصولها على المرتبة الثَّانية إجمالًا في تصنيف الجرائم، يعكس خطورة هذا الملف الَّذي تتصدر فيه القوى العاملة الوافدة، وأحَد الهواجس الَّتي تعيشها سلطنة عُمان في ظلِّ ارتفاع أعداد الوافدين وبشكلٍ خاصٍّ العمالة السَّائبة رغم الجهود الضبطيَّة المتَّخذة في هذا الشَّأن، ويرتبط ذلك بجرائم قانون العمل وجرائم إقامة الأجانب، حيثُ بلغ عدد جرائم قانون العمل بـ(7) آلاف و(571) قضيَّة، ثمَّ جرائم قانون إقامة الأجانب بـ(6) آلاف و(263) قضيَّة ويدخل فيه جرائم أخرى تمارسها الأيدي الوافدة تتعلق بقانون حماية المستهلك بـ(3) آلاف و(340) قضيَّة. على أنَّ ما كشف عَنْه الادِّعاء العامُّ في مؤتمره من ارتفاع جميع الجرائم في تصنيف الجرائم يعني ارتفاع مؤشِّر الجرائم الأخرى مثل: الجرائم الواقعة على الأفراد، وجرائم المخدرات، والجرائم الواقعة على الإدارة العامَّة والمخلَّة بالثِّقة العامَّة، وجرائم السُّكر والخمور، والجرائم المخلَّة بالعِرض والأخلاق العامَّة، وجرائم الأسلحة والذخائر والجرائم الأخرى.

وعَلَيْه، فإنَّ هذا الارتفاع يحمل جملة من الدلالات الَّتي يَجِبُ الوقوف عَلَيْها واتِّخاذ كافَّة السُّبل والإجراءات في تعرُّف أسبابها ومسبِّباتها واحتواء أدواتها وفق عمل وطني موحَّد ومسار استراتيجي تفاعلي يتشارك الجميع صناعته ويقف على تجليَّاته، ومن ذلك ما يأتي:

* أولويَّة طرح إصدار ربع سنوي متكامل عن الجرائم والجناة في إطاره التفصيلي مع إضافة متغيِّرات ديمغرافيَّة دقيقة وواسعة تعطي متِّخذي القرار والأكاديميِّين والباحثين والمهتمِّين فرصًا أكبر في تتبع تداعيات ارتفاع الجرائم على منظومة الأمن الاجتماعي في أبعادها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة والنفسيَّة والتركيبة السكَّانيَّة وعلاقة ذلك بالظَّواهر السلبيَّة، الأمْر الَّذي سيضمن تفعيلًا للأُطر والاستراتيجيَّات والبدائل الَّتي يطرحها في التَّعامل مع المسار الجرمي والَّتي يَجِبُ أن تأخذَ مسار التنفيذ، بحيثُ تظهر بشكلٍ أوضح وأوسع في التقارير الرَّسميَّة القادمة، فعلى سبيل المثال: من هي الفئة الأكثر ممارسة لهذه الجرائم وفق تصنيف الجرائم، ونسبة الشَّباب في مستوى المدارس وفوق (18) عامًا، ونسبة الأحداث فيها؟ وهل المبرِّر الاقتصادي والحصول على المال (حجم الاحتياج الشَّخصي للمال) له علاقة بممارسة هذه الجرائم؟ وكيف أسْهَم انتشار هذه الجرائم في زيادة الظَّواهر السلبيَّة والفكريَّة الَّتي وجَّه جلالة السُّلطان المُعظَّم لدراستها وتتبعها؟ وما هي الظُّروف العامَّة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والنفسيَّة والفكريَّة والتعليميَّة للجناة، حتَّى يتسنَّى فَهْمُ العلاقة التشابكيَّة بَيْنَ هذه المتغيِّرات ومستوى حضورها في السُّلوك الإجرامي.

*مساهمة الجناة الوافدين في إجمالي القضايا بنسبة (45.9%) يحمل في طيَّاته دلالات كبيرة بشأن مخاطر الأيدي الوافدة على المنظومة الوطنيَّة الأمنيَّة الشَّاملة، وتزيد هذه الخطورة عِندَما تأتي من الأيدي الوافدة السَّائبة؛ كونها خارجة عن القانون، وتلاحقها أيادي العدالة، لذلك فهي تبحث عن كُلِّ الطُّرق الَّتي تضْمن لها الحصول على المكسب السَّريع بالرَّشوة أو السَّرقة أو القتل أو الاحتيال أو غير ذلك، وتداعياتها السلبيَّة على استقرار وسمعة سوق العمل، في ظلِّ نُمو الأنماط الاقتصاديَّة المشوّهة والمبتذلة النَّاتجة عن التِّجارة المستترة، مثل: الاحتكار والاستثمار الوهمي وتزايد حالات الغشِّ التِّجاري، والتَّأثير على تنظيم سُوق العمل، والمنافسة غير المتكافئة مع روَّاد الأعمال والمؤسَّسات الصَّغيرة والمتوسِّطة، والتَّهرب الضَّريبي، والتَّحايل على الإجراءات المعمول بها، وترسيخ صورة مشوّهة تزعزع الثِّقة في قدرة سُوق العمل العُماني على استيعاب الكفاءات الوطنيَّة واستقطاب الخبرة الدوليَّة وتوطينها، كما تقلِّل من أهميَّة الإجراءات والتوَجُّهات الوطنيَّة السَّاعية لتنظيم السُّوق وما تمَّ اتِّخاذه في هذه الشَّأن. ومراجعة التَّشريعات والقوانين الَّتي باتتْ تحمل فرص نُمو هذه الممارسات والجرائم أو يتمُّ استغلالها أو استغلال الفرص الَّتي منحتها سلطنة عُمان للمستثمرين فيما يرتبط بالحوافز والامتيازات والتَّأشيرات ذات الصِّلة بقانون العمل والإقامة من الدوَل غير المستقرَّة سياسيًّا، الأمْر الَّذي أدَّى إلى ارتفاع أعداد المهجرين إلى أرض سلطنة عُمان، ما يضع علامات استفهام كبرى حَوْلَ آليَّات العمل الوطنيَّة في إدارة هذا الملف؛ وكذلك ضبط مسار العمالة الوافدة في ظلِّ ما باتَ يرتبط بارتفاع التَّركيبة السكَّانيَّة للوافدين مقارنةً بانخفاض نسبة المواليد العُمانيِّين الأحياء في عام 2023.

* إنَّ حصول الجناة العُمانيِّين على نسبة (54.1%) في إجمالي القضايا، مؤشِّر خطير يرفع من سقف حضور العُمانيِّين في المسار الجرمي، ما يؤكِّد أهميَّة الوقوف على هذا المؤشِّر في ظلِّ إعادة تصحيح وقراءة ومراجعة وتقييم أثَر الإجراءات والأوضاع الاقتصاديَّة على النَّسق الاجتماعي والأمن العامِّ، خصوصًا في ظلِّ ما ارتبط بها من ظهور العديد من الظَّواهر السلبيَّة الأخرى، وبشكلٍ خاصٍّ ما يتعلق مِنْها بجرائم المال والسّرقة والاختلاس والرّشوة، وغيرها، بالإضافة إلى البُعد المرتبط بالهُوِيَّة العُمانيَّة والعادات والتَّقاليد والسَّمْت العُماني ومستوى تعاطي المُجتمع مع منظومة القِيَم والعادات الاجتماعيَّة الدَّاعية للتَّكافل والتَّعاون، ويأتي البُعد النَّفْسي كأحد معطيات الظُّروف الاقتصاديَّة في ظلِّ المشاعر السلبيَّة وحالة الإحباط وعدم التفاؤليَّة، وعدم الرِّضا بالواقع المعيشي للمواطن، كما أنَّ ارتباط هذه الظُّروف بأمراضٍ جسديَّة، تدعمها الأفكار والهواجس النفسيَّة غير السَّارَّة الَّتي باتتْ تشكِّل فكر المواطن وقناعاته حَوْلَ الحياة والمستقبل، فإنَّ تزايد هذه الضُّغوطات سوف يُسهم في اتِّساع دَوْر منصَّات التَّواصُل الاجتماعي في المطالبة بالحقوق، عَبْرَ الهاشتاقات المستمرَّة في منصَّة (X) الَّتي تستهدف توجيه اهتمام الرَّأي العامِّ لبعض القضايا الَّتي تهمُّ الشَّباب، خصوصًا الباحثين عن عمل والمسرَّحِين من أعمالهم، وتزايد دعوات الرَّأي العامِّ بالمطالبة بإقالة بعض الوزراء، ومحاسبة المسؤولين الحكوميِّين والمتنفذين في الشَّركات الحكوميَّة أو الَّتي استغلَّتِ الوظيفة الحكوميَّة في تحقيق مكاسب شخصيَّة، هذا بالإضافة إلى تكريس لُغة الفوقيَّة الاقتصاديَّة بَيْنَ فئات المُجتمع، إذا ما سلَّمنا فرضًا بأنَّ الكثير من المواطنين يعيشون تحت خط العوز، وسيكُونُ لمؤشِّر الفقر والعوز حضوره الواسع في مؤشِّرات الحالة الاقتصاديَّة بالسَّلطنة، كإحدى نتائج تدنِّي جودة حياة المواطن وسقف التوقُّعات لدَيْه وكيفيَّة استيعاب الصُّورة الَّتي قدَّمتها مستهدفات رؤية «عُمان 2040» في شأن دخل المواطن. أخيرًا، رغم ما بشَّرنا به الادِّعاء العامُّ من أنَّ سلطنة عُمان من بَيْنِ أقلّ دوَل العالَم في مؤشِّر ارتكاب الجريمة مقارنةً بالدوَل الَّتي تتشابه معها اقتصاديًّا وجغرافيًّا واجتماعيًّا. إلَّا أنَّ ارتفاع مؤشِّر الجرائم في حدِّ ذاته يمثِّل مصدر قلق وطني له تداعياته التنمويَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والصحيَّة والفكريَّة والأمنيَّة، كما أنَّ اتِّساع انتشار الظَّواهر الجرميَّة بَيْنَ المواطنين يستدعي مراجعة مسار البحث الاجتماعي، وآليَّاته وطُرق التَّعامل مع الظَّواهر الفكريَّة وسرعة البتِّ في الملفات المهيّجة لهذا الأمْر.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]