الثلاثاء 13 مايو 2025 م - 15 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

«نموذج الصين الجدارة السياسية وحدود الديمقراطية» «1ـ2»

«نموذج الصين الجدارة السياسية وحدود الديمقراطية» «1ـ2»
السبت - 19 أبريل 2025 01:42 م

سعود بن علي الحارثي

30


«تُعَدُّ الصِّين اليوم منافسًا شرسًا للغرب باقتصادها العملاق وصناعاتها المتقدِّمة وعلومها المتطوِّرة وابتكاراتها المتفردة، ومساهمًا رائدًا في الثَّورة الرَّقميَّة والذَّكاء الاصطناعي، فهي أكبر مصدر للصِّناعات في العالَم وثاني أكبر اقتصاد من حيثُ النَّاتج المحلِّي، والأسرع نموًّا دَونَ منازع..» من مقال لي نشرته الوطن في أجزاء عن زيارتي للصِّين.

ظلَّتِ الصِّين على مدى الخمسة عُقود المنصرمة وحتَّى اليوم في بؤرة توقعُّات المستقبل، ومحلّ تنبؤات الخبراء والمحلِّلين والأكاديميِّين، مُعلِنين في دراساتهم ومؤلَّفاتهم وتقاريرهم المتخصِّصة المبنيَّة على جُملة من المؤشِّرات والقراءات المأخوذة عن التَّحوُّلات والتَّغيُّرات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة الَّتي تمرُّ بها الصِّين، بأنَّها ستصبح قوَّة عالَميَّة منافسة وسوف تكُونُ قادرة على المدَى المتوسِّط لِتمثِّلَ تهديدًا حقيقيًّا للمكانة الَّتي تبوَّأتها الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة لأكثر من نصف قرن، ولم تخذلْ بكين تلك التنبُّؤات الَّتي ظهرتْ في زمنٍ مبكر جدًّا، فتدفَّقتِ السِّلع والاستثمارات والصِّناعات والعلامات التجاريَّة الصِّينيَّة لِتغزوَ أسواق العالَم في إفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا، وبأسعارٍ منافسة تدغدغ هوى ورغبات واحتياجات المستهلِك وتتناسَب مع قدراته الماليَّة، لِتصبحَ مُشْكلةً ومأزقًا يُهدِّد صناعات ومنتجات الدوَل المتقدِّمة وأسواقها وأنشطتها وقِطاعاتها الاقتصاديَّة، ومناطق ومجال استثماراتها الحيويَّة، وتحوَّلتِ الصِّين في بضع سنوات قليلة إلى قوَّة سياسيَّة وعلميَّة وعسكريَّة واقتصاديَّة يُحسب حسابها.. وها نحن في هذه اللَّحظات الحرجة الَّتي يعلن فيها الرَّئيس الأميركي «دونالد ترامب» عن حربه التِّجاريَّة على العالَم في عمومه، والصِّين خصوصًا، الخصم الألد لقوَّة أميركا وجبروتها، نتابع كيف أنَّ مُعْظم بُلدانه ـ أي العالَم ـ إن لم يكُنْ جميعها تعلن الولاء والخضوع والاستسلام، لسياسة ترامب الجمركيَّة العدائيَّة، باستثناء الصِّين الَّتي تُقابل التَّحدِّي بالتَّحدِّي، والعدائيَّة بأشرس مِنْها، مؤكدةً على أنَّ «الحرب سجال»، وبأنَّها على أتمِّ الاستعداد والجاهزيَّة لمواجهةِ الاستبداد الأميركي بأقسى مِنْه... لقَدْ تحققتِ النَّهضة الصِّينيَّة الحديثة على قواعد وممارسات وتحوُّلات سياسيَّة مزجتْ بَيْنَ الثَّقافة والإرث الصِّيني والمدارس السِّياسيَّة الحديثة، أي بما يُعرف بـ»الجدارة السِّياسيَّة»، ووفاء واستجابة لتطلُّعات وإرادة شَعبيَّة واسعة. هذا الكِتاب الَّذي بَيْنَ أيدينا، «نموذج الصِّين الجدارة السِّياسيَّة وحدود الديمقراطيَّة» لـ»دانييل بيل»، وترجمة «عماد عواد»، الصَّادر عن «المجلس الوطني للثَّقافة والفنون والآداب»، بدَولة الكويت ضِمْن سلسلة «عالَم المعرفة»، يَعرض بالتَّفصيل لهذا النَّموذج الَّذي أصبح كذلك موَجَّهًا للكثير من الدوَل، ومثالًا يُعتدُّ به لتحقيقِ التَّقدُّم والمنافسة واللّحاق بالرَّكب الحضاري، وتتناوله بالبحث والتَّحليل والمقارنة الدِّراسات الحديثة المُتخصِّصة في الحقل السِّياسي وتجارب الدوَل في الحُكم. افتتح «بيل» كِتابه بمثالٍ يشرح بوضوح وبأُسلوب مبسَّط وتقريبي لخصائص وفوارق نظامَيْنِ سياسيِّين يُمثِّلان الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة والصِّين، على وقع مقطع فيديو انتشر بشكلٍ واسع، باعثًا برسالةٍ سياسيَّة تُقارن بَيْنَ النِّظام «الديمقراطي»، القائم على انتخابات «صوت واحد لكُلِّ فرد» في اختيار الرَّئيس، والَّتي قادتْ «باراك أوباما» إلى رئاسة الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، بسرعة «النيزك من خلال حملة انتخابيَّة بلغتْ قِيمتها الملايين من الدولارات، وكلّلتْ بنجاحٍ على مستوى قومي...»، وبَيْنَ النِّظام القائم على «الجدارة السِّياسيَّة»، الَّتي أوصلتْ «شي جين بينج» إلى قمَّة السُّلطة في بلاده عَبْرَ مَسيرة استمرَّتْ عقودًا من الزَّمن: حيثُ رُقي من مستوى القيادة المحلِّي إلى مستوى المدينة، ثمَّ المقاطعة، ومستويات إداريَّة متنوِّعة، لِينتقلَ بعد ذلك إلى درجة وزير على مستوى الإقليم، وتلتْ ذلك عضويَّة اللَّجنة المركزيَّة للحزب، فالمكتب السِّياسي، ومِنْه إلى موقع القيادة في اللَّجنة المركزيَّة للمكتب السِّياسي للحزب، وفي كُلِّ مرحلة من مراحل ترقيته كان يخضع لعمليَّة تقييم جادَّة تَقُومُ على المنافسة بغرضِ قياس إمكاناته في القيادة السِّياسيَّة. هذه العمليَّة يُطلق عَلَيْها النِّظام القائم على الجدارة»، الَّتي قادتِ الصِّين إلى تحقيق نهضتها الحديثة وكانتِ المحفِّز للنَّجاحات الواسعة الَّتي بلغَتْها بكين؛ لأنَّها حملتْ عوامل التَّقدُّم والقدرة على الديمومة والتَّطوُّر، كما يؤمن بذلك الكاتب الَّذي سوف يواصل تحليله لمزايا وعيوب كلا النِّظامين، في فصول كِتابه الأربعة القادمة. إنَّ اختيار القادة السِّياسيِّين على أساس «النِّظام القائم على الجدارة»، واشتراط الكفاءة العالية والخبرة المتنوِّعة... الَّذي أخذتْ به العديد من بُلدان آسيا، لفَتَ أنظار الباحثين وتحوَّل إلى موضوع مهمٍّ للتَّقييم والتَّحليل والدِّراسة، وتناول خصائصه ومميّزاته، انطلاقًا من حقيقة أنَّ العديد من هذه الدوَل حققتْ «أكثر معجزات التَّنمية استدامة في القرن العشرين، ورُبَّما على مدار التَّاريخ بأكمله». ففي «بداية التِّسعينيَّات دفع عديد من القادة الآسيويِّين ومؤيِّديهم بمفهوم «القِيَم الآسيويَّة»؛ للتَّأكيد على أنَّ المُجتمعات الآسيويَّة يَجِبُ ألَّا تتبنَّى القِيَم والممارسات الديمقراطيَّة السِّياسيَّة الليبراليَّة. وكما قال لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة السَّابق: «لدَى الآسيويِّين قليل من الشَّك في أنَّ مُجتمعًا تكُونُ فيه مصالح المُجتمع مقدَّمة على مصالح الفرد هو مُجتمع يُناسبهم أكثر من الفرديَّة السَّائدة في أميركا». يهدف الكِتاب إلى «التَّوفيق بَيْنَ نظامَي الديمقراطيَّة والجدارة على مستوى المؤسَّسات السِّياسيَّة المركزيَّة»، ويسعَى إلى «تعظيم مميّزات وتقليل نواقص نظام سياسي يهدف إلى اختيار وترقية القادة السِّياسيِّين الَّذين يمتلكون فضائل عالية وقدرات «متفردة، فالكاتب لدَيْه «خبرة عقدٍ من الزَّمن نتيجة العيش والتَّدريس في بكين»، وتَدُور فكرته عمومًا حَوْلَ «نقدِ الديمقراطيَّة الانتخابيَّة»، الَّتي تُطبَّق في الغرب، ومقارنتها في المقابل بالنِّظام «القائم على الجدارة» ومثاله كُلّ من الصِّين وسنغافورة. «يتبع»

سعود بن علي الحارثي

[email protected]