في خضمِّ الثَّورة الرَّقميَّة الَّتي اجتاحتِ العالَم، أصبحتْ وسائل الإعلام الرَّقميَّة جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليوميَّة، وتشكَّلتْ مُجتمعات جديدة على منصَّات وسائل التَّواصُل الاجتماعي، فباتتْ تؤثِّر هذه المنصَّات في سُلوك الأفراد، وتوجِّه الرَّأي العامَّ، وتُعِيد تشكيل العلاقات الاجتماعيَّة. وقد كان النَّاس يجتمعون في المجالس للنِّقاش والحوار والتَّواصُل، إلَّا أنَّ هذه الاجتماعات انتقلتْ من المجالس إلى الفضاء الإلكتروني، وفي هذا الفضاء المفتوح، تبرز الحاجة الماسَّة إلى استحضار قِيمة أصيلة من قِيَمنا المُجتمعيَّة وهي (السَّنع).
والسَّنع مصطلح خليجي شَّعبي يُعَبِّرَ عن البروتوكولات السَّائدة في مُجتمعاتنا الخليجيَّة، فلا يقتصر على الأدب أو حُسن التصرُّف، بل هو نظام متكامل من القِيَم والسُّلوكيَّات الَّتي تحكم تعامل الإنسان مع مَنْ حَوْلَه، وتعكس احترامه لِنَفْسِه وللآخرين. وهي كلمة راسخة في ثقافتنا الخليجيَّة والعربيَّة، تُعَبِّرَ عن اللَّباقة، والذَّوق، والرِّفق، والتَّواضع، والاعتدال، وحفظ المقامات، والاحترام، وهو أحَد الضَّوابط الاجتماعيَّة المهمَّة.
وفي زمن الإعلام الرَّقمي، حيثُ تختفي الحدود بَيْنَ العامِّ والخاصِّ، وتُختزل المشاعر في رموز، وتتضاعف سرعة الرُّدود والانفعالات تَغيب معاني السَّنع لِيصبحَ مصطلحًا غير قابل للتَّطبيق، فقَدْ أصبح من السَّهل أن يُساءَ الفَهْمُ، أو تُنتهكَ الخصوصيَّات، أو تصدرَ الأحكام على الآخرين دُونَ تروٍّ أو تحفُّظ، وكُلُّ ذلك بمجرَّد لمساتٍ على شاشات هواتفنا تصدر تعابير قد تكُونُ السَّبب في الشِّقاق والخلاف بَيْنَ الأطراف المتواصلة. فباتَ التَّواصُل بَيْنَ المجموعات في الإعلام الرَّقمي أشْبَه بمجالس في الفضاء الإلكتروني.
فالسُّلوك في الفضاء الرَّقمي (المجالس الرَّقميَّة)، يعكس شخصيَّة الإنسان كما هي في الواقع. وللكلمة المكتوبة، أثَر أكبر من الكلمة الشَّفهيَّة، فالكلمة المكتوبة في الإعلام الرَّقمي تبقى، والرِّسالة يتبادلها النَّاس، والصُّورة تنتشر، والتَّغريدة تُقتبس، ورُبَّما تحمل معاني ما لا تحتمل.. من هنا تأتي أهميَّة التَّحلِّي بالسَّنع في الإعلام الرَّقمي، أو بتعبيرٍ آخر في مجالس الفضاء الإلكتروني، والَّذي يُعَدُّ مسؤوليَّة فرديَّة ومُجتمعيَّة، فالإحساس بالمسؤوليَّة يحمي الشَّخص من الزَّلل، وتجنُّب إيذاء الآخرين. والسَّنع في الإعلام الرَّقمي مقتبس من السَّنع في الحديث الشَّفهي في المجالس، حيثُ تبرز أهميَّة الإيجاز في الحديث، والإفصاح عن المعاني، واحترام الآخرين، والالتزام بآداب الحديث مِثل عدم السُّخريَّة من الآخرين، وترك الغيبة، والهَمْز واللَّمز، والتنابز بالألقاب، ومن السَّنع تحرّي الدقة في نقل المعلومات وتجنُّب نشر الإشاعات. واحترام الخصوصيَّات وعدم التَّطفُّل على الحياة الشَّخصيَّة للنَّاس أو نشر صوَر ومقاطع دُونَ إذن. فالاستئذان لدخول المنازل شرع لغضِّ البصر.. ومن السَّنع التَّعبير عن الرَّأي دُونَ تجريح أو إساءة، مع تقبُّل الاختلاف بروح حضاريَّة، والتَّعامل مع المواقف المثيرة للجدل بحكمة وهدوء، دُونَ انجراف خلْفَ موجات الغضب أو الحشد الرَّقمي.
من هنا تأتي أهميَّة أن يتحلَّى صنَّاع المحتوى والإعلاميون على وجْهِ الخصوص بالسَّنع، فَهُم يتحملون مسؤوليَّة مضاعفة؛ لأنَّهم في موضع تأثير واسع. فالسَّنع هنا لا يقتصر على الأُسلوب المُهذَّب في العَرض أو الحوار، بل يمتدُّ إلى نوعيَّة المواضيع المطروحة، وطبيعة المحتوى، وأثَره على المتلقِّي. فعلى الإعلامي أن يراعيَ الذَّوق العامَّ في المحتوى الإعلامي الَّذي يطرحه، ويلتزم بآداب الحديث في المجالس.
فباتتْ تربية الأطفال والنَّاشئة على السَّنع في العالَم الرَّقمي (المجالس الرَّقميَّة) أمرًا واجبًا على المؤسَّسات التربويَّة بأنواعها كالأُسرة، والمدرسة، والمؤسَّسات الثقافيَّة والتعليميَّة. فتعليم الأبناء منذُ الصِّغر كيف يتصرفون بأدب واحترام في العالَم الرَّقمي، لا يقلُّ أهميَّة عن تعليمهم السَّنع في المجالس الفعليَّة، فالأحرى أن تدرسَ مبادئ «الأخلاقيَّات الرَّقميَّة»، وتشجِّع الطَّلبة على صناعة محتوى مسؤول. ويُمكِن للمؤسَّسات الإعلاميَّة إطلاق حملات توعويَّة تحثُّ على السُّلوك الرَّاقي، وتكافئ النَّماذج الإيجابيَّة.
من المُهمِّ التَّأكيد أنَّ التَّطوُّرَ الرَّقمي لا يعفي الإنسان من التزامه الأخلاقي. فقَدْ تفصلنا عن الآخرين شاشة هاتفنا، وتفصلنا عَنْهم مسافات، لكنَّ هذه الشَّاشة يَجِبُ ألَّا تُنسيَنا أخلاقيَّاتنا في التَّعامل مع الآخرين، وأنَّ خلْفَها إنسانًا له مشاعر وكرامة. وأنَّ المنصَّة مفتوحة للجميع، فلا نسمح لأنْفُسنا بقول كُلِّ شيء دُونَ رقابة، فالالتزام بالسَّنع هو ما يجعل التقنيَّة وسيلة بناء، لا أداة هدم. وهو ما يضبط انفعالاتنا في زمن الرُّدود السَّريعة، ويحفظ للنَّاس احترامهم في زمن الانتشار الهائل، ويذكِّرنا دائمًا أنَّ الكلمة الطيِّبة تترك أثرًا طيِّبًا. وفي زمن الإعلام الرَّقمي تصبحُ مجالسنا الافتراضيَّة مفتوحة على العالَم، وهنا تبرز احتياجنا إلى الحفاظ على قِيَمنا الأصيلة والالتزام بالسَّنع لِيحميَنا من التَّخبُّط. والحفاظ على هُوِيَّتنا الثقافيَّة، وهو المفتاح نَحْوَ إعلام راقٍ، ومُجتمع متماسِك، وفرد ناضِج، يعرف أنَّ الحُريَّةَ مسؤوليَّة، وأنَّ التقنيَّة مهما تطوَّرتْ، فلا نتخلَّى عن قِيَمنا وعاداتنا وتقاليدنا وهُوِيَّتنا... ودُمْتُم أبناء قومي سالِمِين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
Najwa.janahi@