يُشكِّل إدراج برنامج سفينة البحريَّة السُّلطانيَّة (شباب عُمان) في قائمة اليونسكو للتُّراث الثَّقافي غير المادِّي حدَثًا يتجاوز كونه مجرَّد تقدير دولي لرمزٍ وطني، لِيَغدوَ ركيزةً فعليَّة في مشروع تنموي ثقافي متكامل.. فهذه السَّفينة، الَّتي تجوب الموانئ العالَميَّة حاملةً رسالة السَّلام والصَّداقة من عُمان، لم تَعُدْ فقط أداةً للعَرض الدبلوماسي فقط، بل تحوَّلتْ إلى رمزٍ حيٍّ لتاريخٍ بحري طويل، يعكس قدرة العُمانيِّين على تحويل إرثهم إلى قوَّة ناعمة فاعلة. فإدراجها في قائمة اليونسكو يفتح أبوابًا واسعة أمام الاستثمار الثَّقافي والسِّياحي والتَّعليمي، ويُعزِّز من مكانة البلاد في خريطة الدوَل الَّتي تنجح في دمج مُكوِّناتها الثَّقافيَّة في خططها الاقتصاديَّة المتكاملة، كما أنَّ هذا الاعتراف العالَمي يمنح المؤسَّسات الوطنيَّة دفعة معنويَّة لتطويرِ برامج تدريبيَّة وشراكات دوليَّة تُعزِّز من مكانة سلطنة عُمان كمركز للحوار الثَّقافي، ودَولة ذات حضور ناعم وذكي في المشهد العالَمي، يتلاءم مع مكانتها التَّاريخيَّة التَّليدة، على مرِّ العصور والأزمنة. في المقابل، يُمثِّل إدراج (النونيَّة الكُبرى) للعالِم البحَّار العُماني الشَّهير أحمد بن ماجد ضِمْن برنامج (ذاكرة العالَم) التَّابع لليونسكو، توثيقًا لمساهمةٍ عُمانيَّة أصيلة في التَّاريخ العلمي الإنساني، وبالأخصِّ في علوم البحار والملاحة.. فهذه القصيدة الَّتي تختزل خبرة البحَّار العُماني في الإبحار والفلَك والجغرافيا البحريَّة، تتحوَّل من مجرَّد مخطوطة تراثيَّة إلى أصلٍ معرفي يُمكِن البناء عَلَيْه في قِطاعَي التَّعليم والبحث العلمي، لذا فإدراجها دوليًّا يخلق فرصًا حقيقيَّة لتأسيسِ مؤسَّسات بحثيَّة ومتاحف بحريَّة ومعارض دائمة تجذب الأكاديميِّين والسيَّاح على حدٍّ سواء، كما يُتيح تطوير مناهج تعليميَّة مستلهمة من هذا التُّراث، بما يُعزِّز الهُوِيَّة لدَى الأجيال الجديدة، ويحفِّزهم على الابتكار من منطلقات محليَّة، والواقع أنَّ هذه الخطوة ليسَتْ فقط احتفاءً بماضٍ مشرِق، وتأكيدًا على الاحتفاء العالَمي بالتُّراث العُماني، بل استثمار طويل الأجَل في الاقتصاد المعرفي الَّذي تتَّجه إِلَيْه الدوَل الطَّامحة لتنويعِ مصادر دخلِها.
وعلى الصَّعيد الاقتصادي تُمثِّل هذه الخطوات فرصًا واعدة لتنميةِ القِطاعات غير النِّفطيَّة في سلطنة عُمان، وخطوةً مهِمَّة في تحقيق التَّنويع الاقتصادي المنشود، خصوصًا في قِطاع السِّياحة الثَّقافيَّة والتَّعليميَّة، الَّتي تعوِّل عَلَيْها البلاد في تحقيق تلك الأهداف الاقتصاديَّة الكُبرى.. فسفينة (شباب عُمان)، فبَعد الاعتراف الأُممي بها، يُمكِن أنْ تكُونَ نقطة جذب لسيَّاحٍ من جميع أنحاء العالَم، خصوصًا في ظلِّ ازدياد الاهتمام بالسِّياحة ذات البُعد الإنساني والتَّاريخي، كما أنَّ (النونيَّة الكبرى) تُتيح فرصًا لصناعة محتوى معرفي قابل للتَّسويق دوليًّا، سواء من خلال تطبيقات تفاعليَّة أو أفلام وثائقيَّة أو كتُب تعليميَّة، ويُمكِن للقِطاع الخاصِّ أنْ يجدَ في هذا الإرثِ مدخلًا لتطويرِ مشاريع صغيرة ومُتَوَسِّطة في مجالات النَّشر، الفنون، تنظيم الفعاليَّات، وحتَّى التكنولوجيا الثَّقافيَّة. بذلك، يُصبح التُّراث العُماني ليس فقط جزءًا من الماضي، بل وسيلة لبناء المستقبل، ورافد حقيقيّ للدَّخل القومي وفرص العمل، خصوصًا للشَّباب المهتمِّين بالابتكار والتَّخصُّص في الصِّناعات الإبداعيَّة. إنَّ الأهميَّة الحقيقيَّة لهذا الاعتراف الأُممي لا تكمن فقط في قِيمته المعنويَّة، بل في قدرته على إحداث تحوُّل في رؤية الدَّولة لمفهومِ التَّنمية. فحين يُستثمر التُّراث في الاقتصاد، وتُربط الثَّقافة بالابتكار، يتمُّ خَلْقُ معادلة تنمويَّة متوازنة تُراعي الأصالة وتُواكب الحداثة، فعُمان بهذه الخطوات لا تحتفي بماضيها فحسب، بل ترسم ملامح مستقبل مختلف، تُصبح فيه الثَّقافة أداةَ إنتاجٍ لا مجرَّد مادَّة للحفظِ، وهذه الرُّؤية تُعزِّز مكانة المواطن العُماني في العالَم، وتُشعره بالاعتزاز بهُوِيَّته، ما ينعكس بِدَوْره على مستوى الإنتاج والإبداع والانتماء. إنَّنا أمام سياسة ثقافيَّة ذكيَّة، تتَّكئ على التَّاريخ لِتَبنيَ اقتصادًا جديدًا، وتفتحَ لعُمان أُفقًا واسعًا لِتكُونَ ليس فقط حاضنة لإرثها، بل منصَّة دوليَّة للحوار، والعلوم، والتَّنمية المستدامة.