«العدول فـي الرسم المصحفي ودلالاته البلاغية والإيمانية» «2»
.. وكذا ياء (الداعي) التي تحولت إلى ياء، ثم حُذِفَتْ دون دراية منها، ولم تَلْوِ على شيء، وترجع ثانيةً لتأخذ ثلثها الساقط منها، وذهلتْ عنه، كما ذهل الواحدُ منا عن نفسه، فراح ينظر إلى الناس ذاهلًا كالسكر الذي ضاع منه عقله، وفَقَدَ صوابه، فهو يتكلم بكلام غريب، لو وعى له لما قاله، فالكل: كلمات، وشخوصًا ذاهلون، تكلمهم، فلا يسمعون، ويتكلمون بما لا يدركون، وترى الجميع كأنهم سكارى، يترنَّحون، ولا لأنفسهم يعرفون، ويمضون في كل مكان على غير هدى يتصرفون، تأخذ منهم شيئًا، أو تدعه، فلا يفهمون، وعن كل من، وما حولهم ذاهلون، كأنهم سكارى شاربون حتى الثمالة.
فجاء العدول في الكلمتين، وعدم جريه على سَنَنِ القياس الصرفي، والنحوي؛ ليبين لنا هول الموقف، ورُعْبَ السياق الذي وردت فيه الكلمات، وارتعدت، وارتعبت، وسقط منها حروفٌ دون أن تباليَ بذلك؛ لذهولها وكَشْفها عن خطورة اليوم، ومراحله الصعبة.
وتجد الكلمات في الآية كلها تجري، وتُنْطَقُ سريعًا:(.. يَومَ يَدعُ ٱلدَّاعِ إِلَى شَيء نُّكُرٍ، خُشَّعًا أَبصَارُهُم يَخرُجُونَ مِنَ ٱلأَجدَاثِ كَأَنَّهُم جَرَاد مُّنتَشِر، مُّهطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلكَفِرُونَ هَذَا يَومٌ عَسِر) (القمر 6 ـ 8).
ولو أخذنا مثالًا آخر حول العدول في الرسم المصحفي لوجدنا نماذج كثيرة منها:(وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) (الفجر 1 ـ 4).
تنتهي الكلمات براء، ويأتي الفعل:(يُسر) المرفوع؛ لعدم تقدم الناصب، ولا الجازم دون ياء: (يُسر) والأصل:(يُسري)، ومن المفترض وفق قواعد النحو والصرف أن الفعل المعتل الآخر بالألف أو الواو أو الياء يثبت آخره رفعًا ونصبًا ويحذف جزمًا، ولكنه هنا خالف القياس النحوي والصرف وحذفت منه ياؤه من غير سبب، اللهم إلا أنه الرسم المصحفي الذي هو توقيفي، لا توفيقي، وهو تعليل مقبول، لكنه لا يوضِّح العلة في مجيء هذا الرسم على تلك الشاكلة، ولكننا نجتهد في تفسير الظاهرة القرآنية (في قضية الرسم المصحفي)، ولعل السبب إضافة إلى التناسب الصوتي، والسجعة في أواخر الآيات، أي السريان المتتابع، والمشي مع السرعة، واللهث لطلوع الفجر، والوصول إلى الأيام العشر، على اختلاف تفسيرها ما بين عشر ذي الحجة، أو عشر المحرم، أو الأيام العشرة الأواخر في رمضان، وتأتي الكلمة محذوفة الآخر دون سبب نحوي، أو علة صرفية؛ تناغمًا مع قصر الآيات، وقراءتها على عجلة، فالسير فيه خفوت، وسكون، وهدوء يناسبه الياءُ، والسينُ، والراء الساكنة؛ جراءَ الوقف على رؤوس الآي، فيكون السُّرَى خافتَ النبرة، هادئًا، لا يكاد يُشعَر به، فحذفت الياء، ونُطِقت الراءُ خافتة الصوت حتى يتحقق الهدوء التام الذي هو متناغم مع الليل، وهدوئه، وصفائه، ذلك الجو الذي يناسب الطاعةَ، والتجليَ، والعبادةَ التي تتطلب هدوءًا مثلتْه أحرف الفعل، ورشَّحه حذفُ آخره؛ لأنه لو جاء مكسور الراء، وبعده الياء، لارتفع الصوت، وأقضَّ مضاجعَ الليل، ولجعل الصمتَ ذاهبًا مع صوت الراء المكسورة، وبعدها الياء المحقَّقة.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية