حظِيَتْ زيارة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى مملكة هولندا بمراسم استقبال رسميَّة رفيعة، عكستْ عُمق الاحترام والتَّقدير الَّذي تُكنُّه القيادة الهولنديَّة لجلالة عاهل البلاد المُفدَّى ولسلطنة عُمان، كما حمَلتْ في طيَّاتها إشاراتٍ واضحةً إلى أهميَّة هذه الزِّيارة الَّتي تُعَدُّ انطلاقةً نَوْعيَّة نَحْوَ ترسيخ شراكة استراتيجيَّة واعدة بَيْنَ البلدَيْنِ.. ففي القَصْرِ الملكي بالعاصمة أمستردام، كان جلالة الملك ويليام ألكسندر وجلالة الملكة مكسيما في مقدِّمة مستقبِلِي جلالة السُّلطان، في مشهدٍ بروتوكولي احتفَى فيه الهولنديُّون بالمكانة الَّتي تتبوَّأها سلطنة عُمان على الصَّعيدَيْنِ الإقليمي والدّولي، هذا الاستقبال الحافل لم يكُنْ مجرَّد التزام بروتوكولي، بل تعبيرٌ صادقٌ عن تقدير مملكة هولندا للدَّور المُتَّزن الَّذي تؤدِّيه السَّلطنة في السِّياسة الدّوليَّة، ولرؤية جلالة السُّلطان المُعظَّم في رسم مسارات دبلوماسيَّة متوازنة، ترتكز على مبادئ الاحترام والتَّعاون والمصالح المشتركة.. ومنذُ اللَّحظةِ الأُولى لوصولِ جلالته، اتَّضح أنَّ هذه الزِّيارة تحملُ بُعدًا خاصًّا، وأنَّها ليسَتْ زيارةً عابرة، بل نقطةُ تحوُّلٍ في مسار العلاقات العُمانيَّة ـ الهولنديَّة.
لقَدْ جاءتِ المباحثاتُ الثنائيَّة بَيْنَ جلالة السُّلطان وجلالة العاهل الهولندي لِتؤكِّدَ على نضج العلاقة وتكامُل الرُّؤى بَيْنَ القيادتَيْنِ، حيثُ تناولتْ سُبل تعزيز التَّعاون المشترك في مجالات متنوِّعة تشمل الاقتصاد الأخضر، والطَّاقة المُتجدِّدة، والهيدروجين النَّظيف، والتكنولوجيا الحديثة، إلى جانب الأمن الغذائي وإدارة الموارد المائيَّة.. فهذه المباحثات اتَّسمتْ بقدرٍ كبير من التَّفاهم والانسجام، وعكستْ رغبةً حقيقيَّة في توسيع نطاق الشَّراكة لِتشملَ قِطاعات استراتيجيَّة، تُسهم في بناء مستقبل أكثر استدامةً للبلدَيْنِ، واللافتْ أنَّ هذه المباحثات لم تنحصرْ في النِّطاق الثُّنائي فحسب، بل فتحتْ آفاقًا للتَّعاون في قضايا إقليميَّة ودوليَّة، تُعزِّز من موقع السَّلطنة وهولندا كدولتَيْنِ فاعلتَيْنِ في السَّاحة العالَميَّة، حيثُ ظهرَ جليًّا أنَّ هذه الزِّيارة جاءتْ محصِّلةً لتقاربٍ طويلِ الأمَد، ورغبةً في استثمار العلاقات التَّاريخيَّة في بناء مشاريع مستقبليَّة ذات طابع تنموي شامل.
وما عزَّز من أهميَّة هذه الزِّيارة التَّاريخيَّة هو الاتفاقيَّات ومذكّرات التَّفاهم بَيْنَ البلدَيْنِ الَّتي شملتْ مجالات مُتعدِّدة، لِتتحوَّلَ بذلك الرُّؤى المشتركة إلى برامج تنفيذيَّة قابلة للتَّطبيق.. فهذا التَّحوُّل يعكس بوضوحٍ تطوُّر السِّياسة العُمانيَّة الخارجيَّة الَّتي باتتْ تعتمدُ مقاربةً أكثر واقعيَّة وفاعليَّة، قائمة على استشراف المستقبل وبناء شراكات نوعيَّة تُعزِّز من مكانة السَّلطنة عالَميًّا، كما أنَّ الاتفاقيَّات تتناغم مع رؤية «عُمان 2040» الَّتي تركِّز على التَّنويع الاقتصادي والاستفادة من التقنيَّات النَّظيفة، في وقتٍ تتَّجه فيه دوَل العالَم نَحْوَ الاقتصاد الأخضر كخيار استراتيجي لمواجهة التَّحدِّيات المناخيَّة والتَّنمويَّة.
ولم تغفلِ الزِّيارة الجانب الإنساني والثَّقافي، حيثُ تميَّزتْ بلقاءاتٍ مباشرة جمعتْ جلالة السُّلطان بأبناء الجالية العُمانيَّة في هولندا، من مبتَعَثِين وموظَّفِين، في خطوةٍ عكستْ حِرْصَ جلالته على التَّواصُل مع أبنائه أيْنَما كانوا، علاوةً على الاتفاقيَّات في مجالات التَّبادل الثَّقافي والسِّياحي، بما يُعزِّز التَّقارب بَيْنَ الشَّعبَيْنِ العُماني والهولندي، ويُسهم في بناء علاقات قائمة على الفَهْمِ المُتبادل والتَّعاون المستدام، فهذه الأبعاد غير الاقتصاديَّة تُعطي للعلاقة الثنائيَّة بُعدًا حضاريًّا وإنسانيًّا، يُثبتُ أنَّ الشَّراكة الحقيقيَّة لا تُبنَى فقط على المصالح الماديَّة، بل تَقُومُ أيضًا على جسور المعرفة والثَّقافة والتَّواصُل بَيْنَ الشُّعوب.. وفي ظلِّ عالَمٍ تتسارع فيه التَّحوُّلات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة، تبدو سلطنة عُمان من خلال هذه الزِّيارة أكثر استعدادًا لأداء دَوْرٍ فاعل ومتوازن، يربط بَيْنَ الشَّرق والغرب، ويُسهم في بناء نموذج دولي يَقُومُ على الحوار والشَّراكة الحقيقيَّة، في ظلِّ قيادةٍ حكيمة تُوازِنُ بَيْنَ الانفتاح والهُوِيَّة، وبَيْنَ الواقعيَّة والطُّموح.