الجمعة 25 أبريل 2025 م - 26 شوال 1446 هـ
أخبار عاجلة

السرطان لا يشيخ: صدمة الأجيال الجديدة!

السرطان لا يشيخ: صدمة الأجيال الجديدة!
الاثنين - 14 أبريل 2025 01:30 م

د. يوسف بن علي الملَّا

30


كان يُنظر إلى السَّرطان سابقًا على أنَّه مَرض مرتبط بالعمر. ولعُقودٍ، ارتبط ارتباطًا وثيقًا بكبار السِّن، أولئك الَّذين تراكمتْ في خلاياهم طفرات كافية على مدى عمرٍ طويل لإحداث تحوُّل خبيث. لكن اليوم ـ وللأسف ـ يتكشف تحوُّل مقلق، حيثُ يشهد أطبَّاء الأورام حَوْلَ العالَم ارتفاعًا في تشخيصات السَّرطان بَيْنَ البالغين دُونَ سنِّ الخمسين، كثير مِنْهم في الثلاثينيَّات من العمر، وبعضهم أصغر سنًّا. والحقُّ أنَّ هذا التَّوَجُّه ليس مجرَّد سردٍ قصصي، بل هو موثَّق جيِّدًا عَبْرَ القارَّات وسجلَّات السَّرطان، ويتطلَّب اهتمامنا الكامل!

فوفقًا لدراسةٍ رئيسة نُشرت عام 2023 في إحدى المجلَّات الطبيَّة المعتمدة، ارتفع معدَّل الإصابة بالسَّرطان المبكر عالَميًّا بنسبةٍ تقارب الثَّمانِين بالمئة بَيْنَ عامَي 1990 و2019. والأمْر الأكثر إثارة للقلق هو ارتفاع وفيَات السَّرطان لدَى الأشخاص دُونَ سنِّ الخمسين بنسبةٍ تزيد عن خمسة وعشرين في المئة خلال الفترة نَفْسِها. ومن بَيْنِ هذه الحالات، تُعَدُّ سرطانات القولون والمستقيم والثَّدي والغدَّة الدرقيَّة والكُلى من أكثر أنواع السَّرطان شيوعًا. وقَدْ أصبحَ سرطان القولون والمستقيم منتشرًا جدًّا بَيْنَ الأشخاص في العشرينيَّات والثلاثينيَّات من العمر، لدرجة أنَّه أصبح الآن ثاني أكثر أسباب الوفاة المرتبطة بالسَّرطان في هذه الفئة العمريَّة.

فلماذا يحدُث هذا؟ الإجابة واقعيًّا، كما هو الحال مع مُعْظم التَّوَجُّهات الصحيَّة الحديثة، ليسَتْ مفردة، بل هي مُتعدِّدة العوامل، تجمع بَيْنَ العوامل البيولوجيَّة ونمط الحياة والبيئة والكشف المتأخِّر. ومن العوامل الرَّئيسة الَّتي يُستشهد بها غالبًا التَّحوُّل في العادات الغذائيَّة العالَميَّة. فقَدْ أصبحتِ الأطعمة فائقة المعالجة، والمليئة بالمواد الحافظة والسكريَّات والدُّهون المتحوِّلة وقليلة الألياف من المواد الغذائيَّة الأساسيَّة في أنحاء كثيرة من العالَم. حيثُ ترتبط هذه الأطعمة ليس فقط بالسُّمنة ومرَض السكَّري، بل أيضًا بالالتهاب المُزمن منخفض الدَّرجة واختلال الميكروبيوم، ممَّا قد يُهيئ الجسم للإصابة بعدَّة أنواع من السَّرطان، وخصوصًا سرطان الجهاز الهضمي. بل لا يحتاج المرء إلى البحث بعيدًا لرؤية هذا في الواقع، فمعدَّلات سرطان القولون والمستقيم ترتفع بشكلٍ أسرع في الُبلدان الَّتي تحوَّلتْ مؤخرًا إلى الأنظمة الغذائيَّة الغربيَّة!

ناهيك عن العوامل الرَّئيسة المساهِمة في ذلك الارتفاع المُقلق وفي معدَّلات السُّمنة، والَّتي تُصنَّف الآن كسببٍ رئيسٍ للسَّرطان يُمكِن الوقاية مِنْه. فالنَّسيج الدُّهني ليس خاملًا، بل ينتج هرمونات وإشارات التهابيَّة تُهيئ بيئةً خصبة للطَّفرات الخلويَّة وتطوُّر الأورام. فوفقًا لمنظَّمة الصحَّة العالَميَّة، يُصنَّف أكثر من مليار شخص حَوْلَ العالَم على أنَّهم يُعانون من زيادة الوزن أو السُّمنة، وهو رقمٌ يشمل نسبةً كبيرة من الأطفال والمُراهقِين. وهذا يعني أنَّ العديد من الشَّباب يدخلون مرحلة البلوغ وهُمْ يعانون بالفعل من ضعف في عمليَّة الأيض.

وبشكلٍ ملاحظ أيضًا، يُعَدُّ التَّعرُّض البيئي للمواد المُسرطِنة والَّتي لم يكُنِ الكثير مِنْها موجودًا أو كان أقلَّ انتشارًا قَبل جيل مصدر قلق آخر. من المواد الكيميائيَّة المعطِّلة للغددِ الصمَّاء في البلاستيك، إلى المواد البلاستيكيَّة الدَّقيقة في طعامنا ومائنا، ومن المُلوِّثات في الهواء إلى الإفراط في استخدام المضادَّات الحيويَّة والمبيدات الحشريَّة، يولد شباب اليوم في بيئة سامَّة لم يعرفْها أسلافهم قط. وهنا ـ سبحان الله ـ تؤثِّر هذه التَّعرُّضات على التَّوازنات الهرمونيَّة، والاستجابات المناعيَّة، ومرونة الخلايا بطُرقٍ خفيَّة ولكنَّها مُهمَّة مع مرور الوقت. وهكذا ـ وللأسف ـ ما يبدأ كتعرُّض منخفض المستوى في مرحلة الطُّفولة قَدْ يتفاقم إلى تغيُّرات سرطانيَّة بحلول مرحلة البلوغ المبكر.

لكن رُبَّما يكُونُ الجانب الأكثر إثارةً للقلق في هذا المرض هو تأخُّر التَّشخيص؛ لأنَّ مُعْظم برامج فحص السَّرطان الوطنيَّة مُصمَّمة لكبار السِّن، فإنَّ العديد من حالات السَّرطان المبكرة لا تلاحظ إلَّا في مراحلها المتقدِّمة. قَدْ يُقال لشخصٍ يبلغ من العمر خمسةً وثلاثين عامًا ويُعاني من نزيف شرجي إنَّه بواسير، ولا يخضع لفحص سرطان القولون والمستقيم. بل وقَدْ تُنصح امرأة في الثلاثين من عمرها تُعاني من تضخُّم في الثَّدي بالانتظار والمراقبة بدلًا من إرسالها للتَّصوير. ولعلِّي أقول هنا، بأنَّ هذا الاستخفاف بخطر الإصابة بالسَّرطان لدَى الفئات العمريَّة الأصغر سنًّا سمَح للعديد من الحالات بالتَّطوُّر بصمتٍ حتَّى يفوتَ الأوان أو يتطلبَ علاجًا مكثَّفًا!

ففي العيادة، أصبحتْ وجُوه مَرْضَى السَّرطان الشَّباب مألوفة أكثر. عدَّاء رياضي يبلغ من العمر ثمانيةً وعشرين عامًا، مُصابٌ بسرطان القولون في مرحلته الثَّالثة. بَيْنَما نباتيَّة تبلغ من العمر السَّابعة والثلاثين عامًا ليس لدَيْها تاريخ عائلي للإصابة بسرطان الثَّدي. وهناك مهندس آخر يبلغ من العمر ستةً وعشرين عامًا، مُصابٌ بسرطان الغدَّة الدَّرقيَّة. هذه ليسَتْ شذوذا إحصائيَّة، بل انعكاسات لأزمة صحيَّة عامَّة ناشئة؟!

لذلك ولمواجهةِ هذا التَّوَجُّه، لا بُدَّ من اتِّخاذ عدَّة خطوات. أعتقدُ أوَّلًا: يَجِبُ إعادة النَّظر في إرشادات الفحص لِتكُونَ أكثر شمولًا لاتِّجاهات الخطر المرتبطة بالعمر بدلًا من تحديد عتبات عمريَّة صارمة. ثانيًا: يَجِبُ أن تركِّزَ حمَلات التَّوْعيَّة العامَّة على توعية الشَّباب بالسَّرطان، ليس فقط فيما يتعلق بالتَّدخين أو التَّعرُّض لأشعَّة الشَّمس، بل أيضًا بأنماط الحياة والنِّظام الغذائي الَّتي لها عواقب طويلة المدى. ثالثًا: نحتاج إلى أبحاثٍ شاملة وعالَميَّة ومُتعدِّدة التَّخصُّصات ـ لِفَهْمِ بيولوجيا السَّرطانات المبكرة بشكلٍ أفضل، والَّتي قَدْ تختلف في العوامل الوراثيَّة، وشراستها، واستجابتها للعلاج مقارنةً بتلك الموجودة لدَى كِبار السِّن.

وبالمِثل، يُمكِن للأفراد اتِّخاذ إجراءات أيضًا. فالصحَّة ليسَتْ مضمونةً، ولكن يُمكِن حمايتها. إعطاء الأولويَّة للأطعمة غير المصنَّعة، والنَّشاط البَدَني المنتظِم، ونظافة النَّوم، والوعي البيئي لا يقتصر على الوقاية من أمراض القلب فحسب، بل قَدْ يكُونُ أقوى دفاع ضدَّ السَّرطان. وعَلَيْه يَجِبُ معالجة الأعراض المبكرة، مهما كانتْ خفيفة أو مهملةً اجتماعيًّا، دُونَ تأخير.

ختامًا، وكما يُقال مَنْ أهملَ البذرة لا يلوم الحصاد. كيف لا؟ ونحن نشهدُ حصاد عُقودٍ من التَّعرُّض المهمَل، والعادات غير المنضبطة، والافتراضات بأنَّ السَّرطان لا يُصيب الشَّباب. لذلك من المُهمِّ أن يتداركَ الأفراد ذلك، وتستمرَّ مؤسَّساتنا الصحيَّة بالوعي المستمرِّ والفحوصات المبكرة حفظًا لجيلٍ قادم!

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]