يمرُّ العاشر من أبريل في الذِّكرى الثَّالثة لغياب الطَّبيب والأديب الدكتور عبدالعزيز الفارسي الَّذي خطا مسارًا لدربِه بَيْنَ بلاغة البيان ورقَّة الإحسان؛ لِيكُونَ رفيقًا لأرواح منهكة بَيْنَ ثقلِ الفَقْدِ وبصيصِ الأمل، تركَ إرثًا يهتدي به الأطبَّاء كبوصلةٍ إنسانيَّة نستشعر فيها ضمائرنا لا كمُنقذِين للأرواح فقط، بل بأنْ نكُونَ ظلًّا حانيًا على أسرَّة الوداع ورُفقاءِ دربٍ للَّذين يمضون دُونَ عودة، حمَل نعْشَه بأكتافٍ من أملٍ محفوفة بتربيتات مضيئة بأنَّه قدَّم لآخرته وأحسَنَ في دُنياه، حيثُ لا خوف عَلَيْه هناك ولا هُمْ يحزنون. مضَى الدكتور عبدالعزيز الفارسي مترفِّعًا عن أوهام البطولات الطبيَّة، حيثُ لم يكُنْ طبيبًا تقليديًّا وحسب، بل نَصًّا أدبيًّا متكاملًا وسردًا إنسانيًّا حيًّا بأنفاسٍ مشبَّعة بالرَّحمة وكأنَّها صلوات من لُطفٍ نازلٍ من السَّماء، غادرَنا تاركًا إرثًا يقرأ بملامح مكتوبة بالأثَر لا بالحِبر، كراهبٍ متبتلٍ في المحراب على أعتاب الأسَى، ورفيقًا مخلصًا لظلال الموت، دُونَ جماليَّات العبور بإحسان في هذا العالَم لِيسطرَ بالحنوِّ مَراثي الفَقْدِ.
أودع الدُّنيا بهدوء وكأنَّه يحتضر في حضرة صلاة وفي صبره بلاغه بلُغة باذخة معجونة بَيْنَ الموت والحياة، مضَى بصَمْتٍ نبيلٍ يُشبه ترَف الأدباء حين يسدلون ستار حكاياتهم، ويخطُّون مشهد النِّهاية دُونَ وضع نقطة لإنهاء القصَّة؛ لإيمانهم بأنَّ الصَّمْتَ بعد الكلمة الأخيرة أبلغ من أيِّ سردٍ بعده، لِيتركوا القارئ معلَّقًا بَيْنَ الاكتمال والاحتمال بلا نقطة ختام.
سطَّر الرَّاحل الكبير نبضاته بمداد الرُّوح وفيض الشُّعور الَّتي استلَّها من ندوب بَيْنَ الجوف والحشا حين قال «عِندَ وفاة كُلِّ مريض يموت جزء مِنِّي» لَطالَما رافقَه هذا النَّذر طيلة حياته المهنيَّة بأن كُلَّما شُيِّع مريض دُفِنتْ قطعةٌ من نَفْسِه. هذه هي قداسة الوجع الَّتي تجعلُنا نتآكل كأطبَّاء ونصدأ لِتقصرَ أعمارُنا دُونَ أنْ يتحركَ بِنَا الزَّمن.
سكَنَ الرَّاحل النَّبيل على تخوم الحياة بحسٍّ مرهفٍ بَيْنَ الرَّجاء والهاوية، بَيْنَ نبضات تتوارى ونبضات تتهاوى وكأنَّ طبيبَ السَّرطان صانعُ المعجزات ومانحُ الأمل فقط. وتناسوا بأنَّ يدَه الأخرى تُمسك بالموت لا رهبة، بل ألفةً ويقينًا وإيمانًا بأنَّنا ننصهر بَيْنَ يُسر وعُسر بازدواجيَّة متناقضة.. فهناك مَنْ قَدَرُه أنْ يحيَا، وهناك مَنْ قُدِّر له أنْ يرقدَ بسلامٍ... ولكن مَنْ يُرافق الأقدار لا يُستثنى مِنْها، فهي تعرف الأرواح المألوفة فاستقبلته بلا وجَلٍ، لِتتمتمَ له: «آنَ لك أنْ تنعمَ بالسَّكِينة»، فتآمرتْ عَلَيْه الحياة وتنكَّر له الحظُّ الَّذي لَطالَما انتزعَه من بَيْنِ أنياب الموت لِيهديَه لغيرِه على ضفاف المعاناة، كيف تُصابُ وأنْتَ المُعالج؟ وكيف أنْ تذبلَ وأنْتَ مَنِ اعتدْتَ أنْ تُنبتَ الأملَ؟ لِيعلِّمَنا أنَّ المواساة لا تُمنح فقط، بل يُحتاج إِلَيْها أيضًا، وأنَّ الطَّبيبَ، مهما اعتلى منصَّات علميَّة، يبقَى عاجزًا أمامَ زلازل القدر كمضغةٍ هشَّة من لَحمٍ وخوفٍ ونبضٍ، خلَعَ رداء الطِّبِّ لِيرَى وَجْهَ الحياة وهي تُديرُ ظهرها، أرخَى قبضتَه وواجَهَ المنايا لا كعدوٍّ، بل كرَفيقٍ قديمٍ اعتكفَ في صومعة الوجَعِ سالكًا دربَ الفقْدِ بقلبِ قدِّيس وخشوع متصوِّف.. لم يتاجرْ بوجعِه، بل ارتقَى بصَمْتٍ مهيب فصارَ وجعُه روايةً، وصبْرُه قصيدةً، وسكونُه حكايةً ترويها الجدران البكماء.
نقفُ في ذِكرى غيابه لا لِنقدِّمَ رثاءً بقدرِ ما نشكرُه.. فبالرَّغمِ من جسارةِ الموت، لكنَّه كان باردًا كالصَّقيع في حضوره الجليل وخافتًا من أنْ يطفئَ وهجَ بقائه المُتَّقد في الأعماق، بحضوره الاستثنائي سيظلُّ خالدًا بَيْنَنا... لِيضعَنا نتساءل: كم من طبيبٍ أو حتَّى مسؤولٍ تسلَّح ببصيرةٍ لِتَركِ المنصبِ وتسليمِ الكرسي، بل لِتَركِ العالَم بأسْرِه كما يليقُ بأهلِ الإحسان السَّامِينَ بالمكارم صنَّاع المعروف؟
نحن لا نُستدعَى لساحاتِ الطِّبِّ فقط لِنُبدعَ في الطِّبِّ أو الإدارة أو السِّياسات، بل لِنتجلَّى في أنْ نُمتحنَ في جوهرِنا الإنساني، نُستدرجُ في اختيارٍ عِندَ مفترقات النِّعَم والمِحَن، وكما نُبتلَى بالمَرَضِ والموتِ نُبتلَى بالسُّلطةِ وفِتنةِ النَّجاح، ولا مَجْدَ لِمَن لا رحمةَ بجوفه.
لم يتركِ الدكتور عبدالعزيز الدُّنيا بوصايا، بل بمواقفِه الإنسانيَّة الحاضرة في الذَّاكرة، تهيَّأ للحظةِ الوداعِ في كُلِّ مريضٍ رافقَه، كان يُدركُ أنَّ المنصبَ الحقيقيَّ هو في قلوبِ النَّاس، وأنَّ المسؤوليَّةَ الكُبرى ليسَتْ في إدارةِ مؤسَّسة، بل في إدارةِ الرَّحيلِ بكرامةٍ. تُعلِّمنا مدرسةُ الرَّاحل أنَّ الإنسانَ الحقيقي لا يُحتفَى به بعددِ مَرضاهُ وقراراتِه المُبجَّلة، بل بما يتركُه من سلامٍ في قلوبِ كُلِّ مَنْ مرَّ بِهم.. نَمْ قريرَ العَيْنِ أيُّها العزيز، فما زالَ عطاؤكَ ساريًا، وما زالَ دعاؤنَا لكَ يُسابقُ السَّماء.
د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية
طبيبة وكاتبة عمانية