في وقت تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط توترات متصاعدة، تبرز سلطنة عُمان مرَّة أخرى كوسيط حيوي ونزيه، وذلك بفضل سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز حيث نجحت مسقط في كسب ثقة الفرقاء الإقليميين والدوليين، مما أهَّلها لأن تكون منصَّة فاعلة للحلول الوسطى، فهي تمتلك سمعة دبلوماسيَّة متميِّزة، جعلتها وجهة مفضَّلة للحوارات السِّريَّة والعلنيَّة بَيْنَ كافة الأطراف. وبَيْنَما تتَّجه أنظار العالم إلى مسقط، تؤكد سلطنة عُمان مرَّة أخرى أنَّها «أرض الحلول» في منطقة تعجُّ بالصراعات. فعُمان بالفعل صانعة الفرص المستحيلة ومهما كانت النتائج المباشرة لهذه المحادثات، فإنَّ عُمان تثبت أنَّ الدبلوماسيَّة الهادئة والقائمة على الثِّقة قد تكُونُ الوسيلة الوحيدة لصناعة فرص السَّلام في بيئة مشحونة بالصِّراعات.
وخلال هذه المرحلة المحوريَّة المُهمَّة تتحول العاصمة مسقط إلى ساحة حوار تاريخي تجمع بَيْنَ ممثِّلي الولايات المُتَّحدة وإيران في محاولة لرأبِ الصَّدع وتقريب وجهات النظر بَيْنَ البلدَيْنِ. وهذه الثِّقة هي التي دفعتْ واشنطن وطهران إلى اختيار عُمان كـ«بيئة هادئة» تُجرى فيها مناقشات مغلقة، بعيدًا عن الضغوط الإعلاميَّة والتوترات السياسيَّة العلنيَّة. ففي الوقت الذي تشهد فيه العلاقات الأميركيَّة - الإيرانيَّة تصعيدًا بسبب الملف النووي والصراعات الإقليميَّة المتواصلة، تقدِّم مسقط مساحة حوار محايدة لبحث سُبل تفادي تلك الأزمات.
وهناك عدَّة عوامل أهَّلتْ سلطنة عُمان لِتكُونَ الوسيط النَّزيه في تلك المفاوضات، مِنْها الحياد والثِّقة، إذ تتمتع سلطنة عُمان بعلاقات متوازنة مع إيران والغرب، ممَّا يجعلها مقبولة لدَى الطرفَيْنِ. كما أنَّ الدوبلوماسيَّة العُمانيَّة اكتسبت خبرات تراكميَّة من الوساطة النَّاجحة، فقَدْ أدَّت السلطنة دَوْرًا محوريًّا في الوساطة بَيْنَ طهران وواشنطن من خلال المفاوضات النوويَّة السَّابقة، بما فيها الاتِّفاق المؤقَّت في العام 2013 الَّذي مهَّد للاتِّفاق النووي عام 2015. إلى جانب ذلك تعتمد مسقط على منهجيَّة الحوار الهادئ غير العلني، ممَّا يسهِّل الوصول إلى نقاط مشتركة دُونَ ضغوط سياسيَّة فوريَّة ممَّا أثبتَ فعاليَّة ذلك النَّهج الدبلوماسي المتفرِّد.
وعلى الرَّغم من أنَّ المحادثات في مسقط تُعَدُّ خطوة إيجابيَّة، بَيْدَ أنَّ التَّحدِّيات كبيرة، خصوصًا في ظلِّ الانقسامات العميقة بَيْنَ واشنطن وطهران حَوْلَ الملف النَّووي والعقوبات الاقتصاديَّة والدَّور الإقليمي لإيران. لكن سلطنة عُمان تعوِّل على قدرتها في تحويل المسار من المواجهة إلى الحوار، مستفيدةً من شبكة اتِّصالاتها الواسعة مع جميع الأطراف. ففي زمن يُعاني من نقصٍ حادٍّ في الثِّقة بَيْنَ الشَّرق والغرب، تبقى عُمان نموذجًا للوساطة النَّزيهة، ورُبَّما تكُونُ الأمل الأخير لتجنُّبِ المنطقة منزلقًا خطيرًا لا تُحمد عقباه.
وفي خضمّ التوترات الإقليميَّة والدوليَّة، تبرز سلطنة عُمان كطرف محايد وموثوق به لإدارة الحوار بينواشنطن وطهران. لكن ما العوامل التي جعلتها الخيار الأمثل لهذا الدَّور الحساس؟ بقليل من التحليل تبرز العوامل الجيوسياسيَّة والتاريخيَّة والدبلوماسيَّة الَّتي تقف وراء هذا الاختيار من أهمها الحياد الإيجابي في ظلِّ سياسة خارجيَّة عُمانيَّة متوازنة منذُ عقود، إذ تمتلك سلطنة عُمان نهجًا فريدًا في السِّياسة الخارجيَّة يقوم على عدم الانحياز، إذ رفضتْ مسقط الانضمام إلى أي تحالفات عدائيَّة أو محاور إقليميَّة فنأتْ بنفسها وابتعدتْ عن الصِّراعات ولم تشاركْ في أيِّ حروب أو مواجهات إقليميَّة. كما تمتلك علاقات متوازنة مع الجميع فحافظتْ على روابط قويَّة مع إيران والولايات المُتَّحدة والغرب ودوَل الخليج، دُونَ أن تثيرَ شكوك أيِّ طرف، وهذا التَّوازن جعلها «الصَّديق المشترك» الَّذي يُنظر إليه بكُلِّ ثقة واحترام. وقد أسْهمَتْ جهودها الدبلوماسيَّة في حلحلة عدَّة قضايا عالقة، من بَيْنِها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ جهودها في إطلاق سراح العديد من المعتقلين الغربيِّين من سجون إيرانيَّة ومن اليمن. كما سبق وأن قامتْ بالعديد من الوساطاتِ الخليجيَّة فمثَّلت جسرًا مباشرًا بَيْنَ المملكة العربيَّة السُّعوديَّة وإيران، وغيرها من الجهود والوساطات الَّتي عزَّزتْ ثقة الأطراف المتحاورة بقدرة العُمانيِّين على إدارة الحوار بسِرِّيَّة وفعاليَّة.
ومن منظور تاريخي فإنَّ العلاقة التَّاريخيَّة لسلطنة عُمان مع الولايات المُتَّحدة، وكذلك مع الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة تُشكِّل قاعدةً رئيسة لبناء جسور متينة من الثِّّقة المتبادلة ممَّا منحَها القَبول الإقليمي.. فإيران والولايات المُتَّحدة تعدَّان مسقط وسيطًا نزيهًا وغير متحيز وتجاربها مجرَّبة في إدارة العديد من الملفات الإقليميَّة الشائكة، مقارنةً بدوَل إقليميَّة ودوليَّة أخرى رُبَّما تفتقر إلى الفَهْمِ العميق للتعقيدات الإقليميَّة وكيفيَّة التَّعامل معها.
سيف بن خلفان الكندي
إعلامي عماني