أيها الأحبة.. نواصل ما تبقى من سلسة حلقات نشرت خلال شهر رمضان.. واليوم نتحدث عن موضوع (غزوة تبوك).. أقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة سنة تسع ما بين ذي الحجة إلى رجب، ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وكان سبب ذلك ـ كما يقول الواقدي صاحب كتاب (المغازي 3/ 989):(كان تجار من الشام يقدمون المدينة يسمون الْأَنْبَاطُ بالدقيق والزيت، منذ الْجَاهِلِيّةِ وَبَعْدَ أَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامُ، فَكَانَتْ أَخْبَارُ الشّامِ عِنْد الْمُسْلِمِينَ كُلّ يَوْمٍ، لِكَثْرَةِ مَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ مِنْ هؤلاء التجار الْأَنْبَاطِ، فَقَدِمَتْ قَادِمَةٌ منهم فَذَكَرُوا أَنّ الرّومَ قَدْ جَمَعَتْ جَمُوعًا كَثِيرَةً بِالشّامِ، وَأَنّ هِرَقْلَ قَدْ رَزَقَ أَصْحَابَهُ لِسَنَةٍ، وَأَجْلَبَتْ مَعَهُ قبائل لَخْمٌ، وَجُذَامُ، وَغَسّانُ، وَعَامِلَةُ. وَزَحَفُوا وَقَدّمُوا مُقَدّمَاتِهِمْ إلَى الْبَلْقَاءِ وَعَسْكَرُوا بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ عَدُوّ أَخْوَفَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا يَغْزُو غَزْوَةً إلّا وَرّى بِغَيْرِهَا، لِئَلّا تَذْهَبَ الْأَخْبَارُ بِأَنّهُ يُرِيدُ كَذَا وَكَذَا، حَتّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَرّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَاسْتَقْبَلَ غُزّى وَعَدَدًا كَثِيرًا، فَجَلّى لِلنّاسِ أَمْرَ الروم وما دبَّروه لِيَتَأَهّبُوا لِذَلِكَ أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، وَأَخْبَرَ بِالْوَجْهِة الّذِي يُرِيدُ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إلَى الْقَبَائِلِ وَإِلَى أهل مَكّةَ يَسْتَنْفِرُهُمْ إلَى غزوهم، وَحَضّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم ـ المسلمين جميعًا عَلَى الْقِتَالِ وَالْجِهَادِ، وَرَغّبَهُمْ فِيهِ، وذلك في زمان من عسرة الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وكان الناس حين تطيت الثمار يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه، فَحَضّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم ـ المسلمين جميعاً وَأَمَرَهُمْ بِالصّدَقَةِ، فحَمَلُوا صَدَقَاتٍ كَثِيرَةً، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ حَمَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ جَاءَ بِمَالِهِ كُلّهِ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: هل أَبْقَيْت شَيْئًا؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! وَجَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِنِصْفِ مَالِهِ، فَقَالَ له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَبْقَيْت شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، نِصْفَ مَا جِئْت بِهِ. وَبَلَغَ عُمَرَ مَا جَاءَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: مَا اسْتَبَقْنَا إلَى الْخَيْرِ قطّ إلّا سَبَقَنِي إلَيْهِ. وَحَمَلَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ـ رضي الله عنه ـ إلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَالًا، وَحَمَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ إلَى النّبِيّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَالًا، وَحَمَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إلَيْهِ مَالًا، مِائَتَيْ أُوقِيّةٍ، وَحَمَلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ إلَيْهِ مَالًا، وَحَمَلَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ إليه مالًا.. وغيرهم، حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَأْتِي بِالْبَعِيرِ إلَى الرّجُلِ وَالرّجُلَيْنِ فَيَقُولُ: هَذَا الْبَعِيرُ بَيْنَكُمَا تَتَعَاقَبَانِهِ). ويجدر بالذكر ما قاله ابن إسحاق:(فقد ذكر رجالًا من المسلمين أتوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار.. وغيرهم من بني عمرو بن عوف، فطلبوا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحملهم على دواب ـ، وكانوا أهل حاجة، فقال الله فيهم:(وَلَا عَلَى ?لَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوكَ لِتَحمِلَهُم قُلتَ لَا أَجِدُ مَا أَحمِلُكُم عَلَيهِ تَوَلَّواْ وَّأَعيُنُهُم تَفِيضُ مِنَ ?لدَّمعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) (التوبة ـ 92) (سيرة ابن هشام 2/ 518).
ولقد رأيتم أيها الأحباب هذه المواقف الجميلة والتضحية الخالصة، وها أنتم سترون على النقيض الخسة وعدم المروءة والهروب وخلق الأعذار على الكذب، وإليكم بعضًا من تلك المواقف التي تظهر في ذلك اليوم المنافقون على حقيقتهم: (ذات يوم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للجد بن قيس أحد بني سلمة: يا جد، هل لك العام في جلاد بني الأصفر ـ يقصد الروم طبعًا؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني؟ فو الله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر، فأعرض عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: قد أذنت لك. ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية:(وَمِنهُم مَّن يَقُولُ ?ئذَن لِّي وَلَا تَفتِنِّي أَلَا فِي ?لفِتنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُ بِ?لكَفِرِينَ) (التوبة ـ 49)، أي: إن كان إنما خشى الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة أكبر، بتخلفه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والرغبة بنفسه عن نفسه، وإن جهنم لمن ورائه) (سيرة ابن هشام، ت: السقا 2/ 516).. وللحديث بقية.
محمود عدلي الشريف
[email protected]