لا نبالغ إن قُلنا إنَّ العالَم اليوم يدفع فاتورة قديمة، كُتبت بالحبر الفوضوي لإدارة ترامب، فالرَّجل الَّذي كانتْ تصريحاته تُعامل في البداية كفواصل ترفيهيَّة بَيْنَ نشرات الأخبار، أصبح لاحقًا المُخرِج والمُؤلِّف والبَطَل في مسرحيَّة عبثيَّة تتكرر فصولها كُلَّما عادَ إلى المشهد السِّياسي، وفي نَفْس هذا المكان سبَق أن حذَّرنا مرارًا من سياساته المتهوِّرة اقتصاديًّا وسياسيًّا، وقُلنا إنَّ ما يبنيه ترامب لا يُشبه الدوَل، بل أقرب لمشروع (بقالة دوليَّة) يُدار من تغريدة على تويتر، فما بَيْنَ الوعود العنتريَّة بضرب أسعار النِّفط، والتَّفاخر بإلحاق الخسائر بالدوَل المُنتِجة، نجح الرَّجُل في نسْفِ الرِّئة الاستثماريَّة الَّتي كانتْ تتنفَّس مِنْها الاقتصادات النَّامية، ولا شيء جاء صدفة، بل كُلُّ أزمة مرَّتْ ـ من الرُّكود إلى التَّضخُّم ـ كانتْ نتيجة طبيعيَّة لسياسات لا تعرف معنى التَّوازن، ولا تُعير أيَّ اعتبار للعالَم الَّذي يتنفَّس بالأرقام لا بالهتاف. إنَّ ترامب لا يكتفي بإعادة تدوير الفوضى، بل يُعِيد تصديرها كمنتَج أصْلِي باِسْمِ (العبقريَّة الاقتصاديَّة)، فهو تاجر شنطة محترف، يحمل حقيبة مليئة بالبضاعة الفاسدة من قرارات مرتجلة، يتنقل بها من سُوق إلى آخر، يُلمِّعها بخِطابٍ شعبوي، ثمَّ يبيعها لمواطنين وحلفاء يائسِين. ما يحدُث الآن من رسوم جمركيَّة شاملة يُشبه إلى حدٍّ بعيد توزيع منشورات انتقاميَّة في عزِّ جنازة اقتصاديَّة عالَميَّة.. فالرَّجُل يُعلن تقنين خمس عملات رقميَّة دفعة واحدة، دُونَ حذرٍ أو دراسة، وكأنَّ الأسواق صالة قمار، والخسائر مجرَّد أرقام على شاشة، وبعد أن تجاوزتْ خسائر وول ستريت (6.6) تريليون دولار في يومَيْنِ، لا يزال الرَّجُل يبتسم ويُخبر الأميركيِّين أنَّ الوضع تحت السَّيطرة، بل ويتفاخر بأنَّ الصِّين خسرتْ أكثر.. وهنا يَعُودُ للواجهة لَقَب (أبو حنان) الَّذي أطْلقَه عَلَيْه المصريون تهكمًا، وكأنَّه بائع أنفار في مولد لا علاقة له بالسِّياسة، لكنَّه يصرُّ على أداء دَوْر الخبير الاقتصادي الَّذي يفهمُ السُّوق أكثر من السُّوق نَفْسه. وما زادَ الطِّين بِلَّة أنَّ الصِّين ـ كما حذَّرنا مسبقًا ـ لن تَصْمتَ، وها هي لم تتأخرْ كثيرًا في الردِّ، فقَدْ فرضتْ رسومًا شاملة على السِّلع الأميركيَّة، فبدأتِ الأسواق تهتزُّ، وانخفضتْ أسعار النِّفط، ودخلَ الاقتصاد العالَمي في نَوبة هلع، وبدأتْ دوَل الخليج، الَّتي تعتمد في صادراتها على الموادِّ الخام كالألمنيوم والحديد، تشعُر بسحبِ الدِّفء عن موازناتها. فالطَّلب على النِّفط يتراجع، وسلاسل التَّوريد تهتزُّ، والصِّناعات التَّحويليَّة تُعاني من اختناقات قاتلة، ومع كُلِّ هذه العوامل، يجدُ المستثمِرون أنْفُسَهم أمام مشهد ضبابي يدفعهم للانسحاب، أو على الأقل تجميد قراراتهم. ترامب، في المقابل، يواصل بيع الحلم الأميركي المُغلَّف بالصَّدأ، يَعِدُ المصانع بالعودة، والوظائف بالانتعاش، ويقول إنَّ العاصفة ستمرُّ، بَيْنَما الحقيقة أنَّ ما يُقدِّمه ليس مظلَّة، بل حفرة جديدة يدفنُ فيها ما تبقَّى من استقرار عالمي، والأسوأ أنَّه يصرُّ على أن يقنعَ العالَم بأنَّ هذه الحفرة هي بداية النُّهوض لا نهايته. تشبيه ترامب بتاجر الشَّنطة ليس إساءة، بل وصف دقيق، فهو أشْبَه بتاجر يطوفُ بالعالَم حاملًا بضائع انتهى عمرها، لكنَّه يُعِيدُ تغليفها بوَرَقٍ لامعٍ ويُقنع الفقراء بأنَّهم على وشَكِ امتلاك (الفرصة الذَّهبيَّة). في الخمسينيَّات من القرن الماضي كان هؤلاء التجَّار يتنقَّلُون بَيْنَ قُرى ونجوع مصر، يبيعون أقمشةً تالفة وعطورًا مغشوشة، مستغلِّين جهل النَّاس وبساطتهم وفقرهم، واليوم يفعل ترامب الشَّيء ذاته، لكن على نطاق عالَمي.. فالوعود عِندَه كثيرة، لكنَّها بلا ضمان، والتَّصريحات ناريَّة، لكن بلا مضمون، وكُلَّما ضاقتِ الدَّائرة، زادَ من حدَّة صوته؛ لأنَّه يؤمن بالصُّراخ في السُّوق دائمًا وسيلة تسويق فعَّالة. لكنَّ الحقيقة هذه المرَّة أنَّ هذا التَّاجر لم يَعُدْ يبيع الوهم فقط، بل يُروِّج للفوضى كمنتَجٍ رسمي، ويستمرُّ في إقناع العالَم بأنَّ الخراب يُمكِن إصلاحه... فقط إذا اشتريناه مِنْه أوَّلًا، والمُشْكلة أنَّ بعض المشترين، رغم الخسائر، لا يزالون يفاوضونه على نسخة جديدة من نَفْس البضاعة القديمة.
إبراهيم بدوي