السبت 27 يوليو 2024 م - 21 محرم 1446 هـ

السن المناسبة للخروج للتقاعد؟!

السن المناسبة للخروج للتقاعد؟!
الاثنين - 12 فبراير 2024 05:21 م

محمد عبد الصادق

50

خرج والدي للتقاعد في سنِّ الخامسة والسِّتين، وكان يتمتَّع بصحَّة جيِّدة ومحتفظًا بلياقته الجسديَّة والذهنيَّة، وقرَّر لشغْلِ وقت فراغه الاعتناء بـ»تكعيبة» العنب الخشبيَّة فوق سطح المنزل وأُصُص الزَّرع والزهور، مع المواظبة على صلاة الجماعة في المسجد القريب، مع تراجع نشاطه البَدَني وإصابته بخشونة الركبة، استعان بعكَّاز يستند إليه، حتَّى اعترضَ عكَّازه ذات يوم حصاة الشَّارع، وكاد يتعثَّر، فقرَّر الصَّلاة في المنزل واكتفى بصلاة الجمعة، بمرور الأيَّام، ونتيجة قلَّة الحركة ارتفع الضَّغط والسكَّر وتدَهوَرَت بنيته الجسديَّة، وفقَدَ شغفَه للحياة حتَّى قابَل ربًّا كريمًا.

الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك تولَّى الحُكم في عمر الثَّالثة والخمسين، وظلَّ في الكرسي ثلاثين عامًا حتَّى تنحَّى في الثَّالثة والثَّمانين، وظلَّ محتفظًا بصحَّته الجيِّدة وبنيته الجسديَّة المتينة، ولَمْ نعرف أنَّ الشَّيب عرفَ طريقه إلى رأسه إلَّا من حلَّاقه الخاصِّ بعد تنحِّيه، وربَّما يعُودُ الفضل في ذلك لتكوينِه العسكري، ومواظبته على ممارسة رياضة الإسكواش، ولكنَّ السَّبب الأهمَّ ـ في رأيي ـ هو «أنَّ الجاه والسُّلطة تعطي «الباور» وتقاوم الأمراض والشيخوخة». ولعلَّ هذا يفسِّر تكرار الأمْرِ مع أركان نظامه، فأحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشَّعب الأسبق تعدَّى التِّسعين من عمره وما زال يمارس مهنة المحاماة، وحتَّى وقت قريب كان يذهب للمحكمة ويقف أمام القضاء للترافع بصوته الجهوري ولُغته القانونيَّة الفصيحة، وزكريا عزمي رئيس ديوان مبارك اقترب من التِّسعين ولا تجد عزاءً أو عرسًا أو مناسبة اجتماعيَّة إلَّا تجدُه أوَّل الحاضرين، محتفظًا برشاقته وخفَّة حركته (ولا شابٌّ في الثلاثين)، وعاش صفوت الشريف وزير الإعلام ورئيس مجلس الشورى الأسبق حتَّى ناهزَ التِّسعين، وظلَّ محتفظًا بأناقته وحُسن هندامه حتَّى وفاته.

واختلف الخبراء حَوْلَ السِّن المناسبة للتقاعد، بعيدًا عن الاحتياج المادِّي، والشِّعارات البرَّاقة من قبيل التخطيط المالي لِمَا بعد التقاعد، واستخدام المدخَّرات في القيام بـ»تورز» حَوْلَ العالَم، والاستمتاع بالمغامرات وتحقيق الأحلام المؤجَّلة، ولكنَّهم اتَّفقوا على التأثير السلبي للتقاعد المبكِّر، خصوصًا إذا كان الإنسان يحبُّ مهنَته ويتمتَّع بصحَّة جيِّدة، وطالما كان العمل غير مرهق بدنيًّا.

كما أكَّد كثير من الدِّراسات الطبيَّة أنَّ العمل يحافظ على النَّشاط العقلي للإنسان، وأنَّ التقاعد قَدْ يؤدِّي للإصابة بالسّمنة والاكتئاب، وتبَيِّن أنَّ تأخير سنِّ التقاعد سنة واحدة يخفِّض خطر الوفاة بنسبة (11%)، وأنَّ هناك علاقة بَيْنَ التدهور المعرفي والإدراكي وسنوات التقاعد؛ لأنَّ كثيرًا من النَّاس يتباطؤون، وتترسَّخ لدَيْهم العادات السَّيئة عِندما لا يضطرون للاستيقاظ مبكِّرًا والعمل كُلَّ يوم.

وعلى عكس المتصوَّر، قَدْ يؤدِّي التقاعد إلى العُزلة الاجتماعيَّة خصوصًا لدى الرجال، مع افتقاد علاقات وزملاء العمل الَّتي تعُودُ على رؤيتهم كُلَّ يوم، حيث يكونون أحيانًا المصدر الرئيس للتفاعل الاجتماعي والتحفيز الذِّهني. المطلوب إعادة صياغة فكرة التقاعد، وترك الخيار للفرد لتحديدِ ما يريده، فهناك أشخاص يشعرون بالتَّعاسة ويكرهون العمل، وينتظرون التقاعد بفارغ الصبر، مِثلما هناك أشخاص فوق الخامسة والسِّتين، ويعشقون وظيفتهم ومفعمون بالحياة والطَّاقة طالما ما زالوا يؤدُّون عملهم. التوازن مطلوب، إذا استطاع المتقاعد ممارسة عمل غير مجهد بدنيًّا وصحيًّا، وتخفَّف بقدر ما يستطيع من الأعباء العائليَّة والاجتماعيَّة الَّتي تسبِّب له التوتُّر وتُرهقه مادِّيًّا وعصبيًّا، وأدخل بندَ التَّرفيه حسب إمكاناته المادِّيَّة، حتَّى يستطيعَ أن يحظَى بمرحلة استقرار وهدوء فيما تبقَّى من حياته.

محمد عبد الصادق

كاتب صحفي مصري