تتواصل جرائم الاحتلال الصُّهيوني ضدَّ الشَّعب الفلسطيني بوتيرةٍ متصاعدة، في مشهدٍ يعكسُ استهتارًا صارخًا بالقوانين الدّوليَّة وحقوق الإنسان.. فالمَدَنيُّون هُمُ الهدف الأوَّل، حيثُ تتعرَّض المستشفيات للقصف، كما حدَث في مُجمَّع ناصر الطبِّي، في جريمة تكشف إصرار العدوِّ على إفراغ غزَّة من أيِّ بنية أساسيَّة قادرة على الصُّمود، وفي رفح يعيش الآلاف من المَدَنيِّين تحت القصف دُونَ ملجأ، في ظلِّ حصارٍ خانِق يمنع عَنْهم الغذاء والدَّواء، في تكرار لجرائم التَّطهير العِرقي الَّتي لم تتوقفْ منذُ نكبة 1948. وجريمة الإبادة في حيِّ تل السُّلطان برفح تُمثِّل مثالًا صارخًا على هذا النَّهج الدَّموي، حيثُ حُوصِرَ الآلاف تحت القصف العنيف دُونَ وسيلة للنَّجاة، فيما تمَّ استهداف العائلات داخل منازلها بشكلٍ متعمَّد.. وفي الضفَّة الغربيَّة تُغلق المحالُّ التِّجاريَّة بالقوَّة، وتُنفَّذ اعتقالاتٌ تعسفيَّة، بَيْنَما يواجِه الفلسطينيون الرَّصاص لِمجرَّد احتجاجهم على هذا الواقع الجائر.
لا يكتفي الاحتلال بجرائم القتل الجماعي، بل يَمضي قُدُمًا في مُخطَّط التَّهجير القسري عَبْرَ مزيجٍ من الإرهاب العسكري والإجراءات الإداريَّة الهادفة إلى إفراغ فلسطين من أهْلِها، ففي قِطاع غزَّة يُستخدم القصفُ العشوائي والحرمان من المساعدات سلاحًا لدفعِ السكَّان نَحْوَ النُّزوح، بَيْنَما في الضفَّة الغربيَّة، تتواصل عمليَّات الاستيلاء على الأراضي، حيثُ يتمُّ هدْمُ المنازل بالجملة، وطردُ الفلسطينيِّين من قُراهم، كما يحدُث في مسافر يطا والأغوار. الاحتلال لم يَعُدْ يُخفي نيَّاته، إذ أنشأ رسميًّا إدارة مُتخصِّصة لِتَهجيرِ الفلسطينيِّين، وسط تصريحات تحريضيَّة علنيَّة تدعو إلى قتلِ أهْلِ غزَّة واحتلالِ أرضِهم، فهذا المُخطَّط ليس وليد اللَّحظة، وإنَّما يأتي امتدادًا لمشروعٍ استعماري طويل الأمد، يسعى إلى تغيير التَّركيبة السكَّانيَّة في فلسطين بالكامل، وفرض سيطرة صهيونيَّة مُطْلقة، بَيْنَما يدفعُ الفلسطينيِّين إلى حياة اللُّجوء والتَّشرُّد.. فهذه السِّياسة ليسَتْ مجرَّد انتهاك للقانون الدّولي، بل جريمة ضدَّ الإنسانيَّة تستوجب تحرُّكًا فَوْريًا، خصوصًا في ظلِّ التَّواطؤ الصَّامت الَّذي يمنحُ الاحتلال الضَّوء الأخضر للمُضي قُدُمًا في مُخطَّطاته.
في مواجهة هذه الجرائم المتصاعدة، تُظهر الأُمم المُتَّحدة عجْزَها وتخاذُلَها، فبدلًا من تعزيز وجودها لحمايةِ المَدَنيِّين، قرَّرتْ تقليص نشاطها في غزَّة بعد استهداف الاحتلال لِمُوظَّفِيها، في خطوةٍ تعكسُ استسلامها أمام آلة القتل الصهيونيَّة. القرار لا يُمكِن وصْفُه بأنَّه (إجراء أمني)، بل انسحاب فعليّ أمام تصعيد العدوان، ويعكسُ رضوخ المُنظَّمة لضغوطِ الاحتلال، بدلًا من مواجهتها بقرارات مُلزمة وعقوبات حقيقيَّة، وهذا التَّخاذل ليس جديدًا، فقَدْ باتَتْ قرارات الأُمم المُتَّحدة مجرَّد أوراق بلا قِيمة، حيثُ يتجاهل الاحتلال تنفيذ عشرات القرارات الدّوليَّة، بَيْنَما يكتفي المُجتمع الدّولي بالتَّنديد.. والأخطر أنَّ هذا العجز يُستخدم غطاءً لاستمرارِ المجازر، إذ يمنح الاحتلال شعورًا بأنَّه فوق المحاسبة. فتقليص نشاط الأُمم المُتَّحدة في غزَّة يؤكِّد أنَّ المؤسَّسات الدّوليَّة لم تَعُدْ قادرةً على أداء أيِّ دَوْرٍ جادٍّ، ما يفرض على الشُّعوب مسؤوليَّة التَّحرُّك الفعلي، بعيدًا عن انتظار تدخُّل عالمي لن يأتيَ.
في ظلِّ هذا الواقع المُظلم، لا يبقى أمام الفلسطينيِّين خيار سوى الصُّمود والمقاوَمة، فالتَّاريخ أثبتَ أنَّ الحقوق لا تستردُّ بالمناشدات، بل بفرضِ الأمْر الواقع على الأرض، لقَدْ أثبتَ الفلسطينيون عَبْرَ العقود أنَّ إرادتهم لا تُهزم، وأنَّ كُلَّ محاولات الإبادة لم تُضعفْ عزيمتهم، بل زادتهم تمسُّكًا بحقِّهم في الحياة والحُريَّة.. ومع تخاذُل المُجتمع الدّولي تتحمل الشُّعوب العربيَّة والإسلاميَّة مسؤوليَّة كبرى، فلا يكفي الغضب العابر، بل يَجِبُ اتِّخاذ خطواتٍ عمليَّة، من مقاطعة اقتصاديَّة شاملة، إلى فرض ضغوط على الحكومات لوقفِ أيِّ شكلٍ من أشكال التَّعاون مع العدوِّ، فالمعركة اليوم ليسَتْ مجرَد قضيَّة فلسطينيَّة، بل هي اختبار لإرادة الأُمَّة بأكملها، في مواجهة مشروع استعماري يسعى إلى سحقِ كُلِّ أشكال المقاوَمة، والتَّاريخ لن يرحمَ الصَّامتِين، ولن يغفرَ لِمَن تواطَأ أو تخاذَلَ، فإمَّا أنْ يتحرَّكَ العالَم لوقفِ هذه الإبادة، أو أنْ يتحمَّلَ الجميع تبعات صَمتِهم أمام جريمة تَسجِّلها الإنسانيَّة وصمةَ عارٍ لا تُمْحَى.