يأتي إنشاء محكمة الاستثمار والتِّجارة في سلطنة عُمان خطوةً محوريَّة في إطار التَّحوُّلات القانونيَّة والاقتصاديَّة الَّتي تتبنَّاها السَّلطنة ضِمْن رؤية «عُمان 2040»، فهذه المحكمة ليسَتْ مجرَّد إضافة جديدة إلى المنظومة القضائيَّة، بل هي انعكاس لِفَهْمٍ عميق لطبيعة التَّحدِّيات الاقتصاديَّة الحديثة، حيثُ أصبح النُّمو الاقتصادي يعتمد بشكلٍ أساسٍ على بيئة قانونيَّة مستقرَّة وعادلة. لذا فتأسيس محكمة مُتخصِّصة بالنِّزاعات التِّجاريَّة والاستثماريَّة يُمثِّل تطوُّرًا جوهريًّا يتجاوز مجرَّد تسريع الفصل في القضايا، لِيصلَ إلى مستوى إعادة هندسة العلاقة بَيْنَ القانون والاقتصاد، بحيثُ تُصبح العدالة أداة تمكين للاستثمار وليسَتْ مجرَّد وسيلة لحلِّ النِّزاعات.. فهذه الخطوة الجديدة تنطلق من رؤية سامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ تسعَى للمستقبل عَبْرَ تحديث القوانين، وإرساء دعائم قانونيَّة واضحة وفعَّالة.
ما يُميِّز هذه المحكمة هو أنَّها ليسَتْ فقط جهةً لحلِّ الخلافات التِّجاريَّة، بل مُكوِّن أساس في منظومة التَّحفيز الاقتصادي، حيثُ تؤدِّي دَوْرًا مباشرًا في تحسين بيئة الأعمال وتعزيز ثقة المستثمِرِين المحلِّيِّين والأجانب.. فوجود محكمة مُتخصِّصة يَضْمن معالجة القضايا التِّجاريَّة المُعقَّدة بآليَّات سريعة ومُتخصِّصة، ما يحدُّ من العوائق القانونيَّة الَّتي قَدْ تواجِه الشَّركات، سواء كانتْ ناشئة أو كبرى. تشمل اختصاصات المحكمة مجموعة واسعة من القضايا الَّتي تتجاوز النِّزاعات التَّقليديَّة بَيْنَ التجَّار، مِثل قضايا المنافسة ومَنْع الاحتكار، والمعاملات التِّجاريَّة الإلكترونيَّة، وحماية الملكيَّة الفكريَّة، وكُلُّها عناصر أساسيَّة في الاقتصاد الرَّقمي الحديث. هذه الاختصاصات تعكسُ استجابة سلطنة عُمان لمتطلَّبات الأسواق العالَميَّة، حيثُ لم يَعُدِ الاقتصاد يعتمدُ فقط على المعاملات المادِّيَّة، بل يمتدُّ لِيشملَ الأُصولَ الرَّقميَّة، والعقود الذَّكيَّة، والتِّجارة العابرة للحدود، ممَّا يجعل وجود محكمة مُتخصِّصة ضرورةً استراتيجيَّة وليسَتْ مجرَّد تحسين إداري.
إنَّ الجانب الإجرائي لهذه المحكمة يعكسُ تطوُّرًا لافتًا في أُسلوب التَّقاضي، فبدلًا من النِّظام التَّقليدي الَّذي قَدْ يتسبَّب في تأخير الفصل في القضايا ويُعطِّل المصالح، تبنَّتِ المحكمة نموذجًا أكثر كفاءةً وقدرة، يعتمد على تقنيَّات حديثة مِثل التَّقديم الإلكتروني وإدارة الدَّعاوى مسبقًا عَبْرَ مكتب تهيئة الدَّعاوى.. فهذا يعني أنَّ القضايا ستُدار منذُ البداية بأُسلوبٍ يَضْمن تقليل التَّعقيدات الإجرائيَّة، وتوفير الوقت والجهد لجميعِ الأطراف، وهذه المنهجيَّة ليسَتْ فقط تحسينًا في الأداء، بل هي جزء من رؤية أوسع لجعلِ القضاء العُماني نموذجًا للقضاء المُتخصِّص الَّذي يجمع بَيْنَ الكفاءة والعدالة، ما يُعزِّز جاذبيَّة السَّلطنة كوجهةٍ استثماريَّة قادرة على حماية حقوق المستثمِرِين بشكلٍ احترافي ومتطوِّر.
إنَّها خطوةٌ ضروريَّة في عالَم تتحرَّك الاقتصادات فيه بسرعة الضَّوء، حيثُ يُصبح امتلاك منظومة قانونيَّة متطوِّرة هو الفارق بَيْنَ دَولة جاذبة للاستثمار، وأُخرى تُعاني من عزوف رأس المال. فإنشاء محكمة الاستثمار والتِّجارة في سلطنة عُمان لا يعكسُ فقط وعيًا بالتَّحدِّيات الاقتصاديَّة الرَّاهنة، وإنَّما هو رسالةٌ واضحة بأنَّ السَّلطنة لا تكتفي بمواكبة التَّطوُّرات، بل تسعَى لِتكُونَ في مقدِّمة الدوَل الَّتي تَبنِي بيئة أعمال متكاملة، محميَّة بقضاء مُتخصِّص وفعَّال. فهذه المحكمة ليسَتْ مجرَّد خطوة قانونيَّة، بل هي جزء من تحوُّل استراتيجي أعمق يجعل القانون عنصرًا داعمًا للنُّموِّ، لا عقبة أمامه. ومن هذا المنطلَق، فالقرار لا يخدم فقط المستثمِرِين والتجَّار، وإنَّما يُشكِّل ركيزةً أساسيَّة لمستقبلٍ اقتصادي أكثر ازدهارًا، حيثُ يُصبح القضاء أداةَ تنميةٍ حقيقيَّة، وليسَتْ مجرَّد جهةِ فصْلٍ في النِّزاعات.