الثلاثاء 01 أبريل 2025 م - 2 شوال 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : ماضي المجد وحاضر الازدهار

الأحد - 23 مارس 2025 06:35 م

رأي الوطن

20


لَطالَما كانتْ سلطنة عُمان في قلبِ التَّاريخ البحري والتِّجاري، مستفيدةً من موقعها الاستراتيجي الفريد على خطوط الملاحة العالَميَّة، فمنذُ الأزل ارتبط الإنسان العُماني بالبحر، فاتَّخذ مِنْه مصدرًا للرِّزق، وميدانًا للتِّجارة، وجسرًا للتَّواصُل الحضاري مع العالَم، فلم تكُنِ الموانئ العُمانيَّة مجرَّد نقاط عبور، بل كانتْ محطَّات ازدهار، حيثُ صاغتْ أمجادها عَبْرَ العصور من صحار إلى مسقط، ومن صلالة إلى الدُّقم، وفي عصر النَّهضة المباركة المُتجدِّدة، استندتْ جهود التَّنمية إلى قراءة تاريخيَّة واعية لمكامن القوَّة الوطنيَّة، فوضعتِ الموانئ في صدارة خطط التَّطوير، مستندةً إلى إرثٍ عريق يمتدُّ لقرون، حيثُ كانتِ السُّفن العُمانيَّة تبحر من بحر العرب إلى المحيط الهندي، ومن سواحل إفريقيا إلى موانئ الصِّين، حاملةً معها تجارة اللّبان، والنُّحاس، والخيول العربيَّة، ومجسِّدةً روح المغامرة والرِّيادة.

باتَ القِطاع اللوجستي أحَد أعمدة التَّنويع الاقتصادي في سلطنة عُمان في عصر الاقتصاد الحديث، فهو ركيزة أساسيَّة لِتَحقيقِ التَّنمية المستدامة الَّتي تسعَى إِلَيْها رؤية «عُمان 2040». فمع تزايد أهميَّة سلاسل التَّوريد العالَميَّة أدَّتِ الموانئ العُمانيَّة دَوْرًا رئيسًا في تعزيز مكانة السَّلطنة كمحور لوجستي عالَمي.. ومن خلال استثمارات استراتيجيَّة في البنية الأساسيَّة، وتطوير المَرافق، واعتماد أحدَثِ التقنيَّات في إدارة العمليَّات، أصبحتِ الموانئ وجهةً مفضَّلة للنَّاقلات العملاقة، والتِّجارة العابرة للقارَّات، وهذا التَّوَجُّه لم يكُنْ رفاهيَّة، بل ضرورة مُلحَّة فرضها واقع الاقتصاد العالَمي، حيثُ تحوَّلتِ الدوَل إلى مراكز إقليميَّة لجذبِ الاستثمارات، وخلقِ بيئةٍ تنافسيَّة تعتمد على الكفاءة وسرعة الإنجاز. ولأنَّ اللوجستيَّات هي العمود الفقري للاقتصاد، فإنَّ تطوُّر هذا القِطاع في السَّلطنة يعني تعزيز الصَّادرات، وتقليل الاعتماد على النِّفط، وخلق فرص عمل جديدة، ورفع تنافسيَّة المنتَجات الوطنيَّة في الأسواق العالَميَّة.

تؤكِّد الأرقام بما لا يدع مجالًا للشَّك أنَّ الموانئ العُمانيَّة ليسَتْ مجرَّد بوَّابات بحريَّة، بل شرايين اقتصاديَّة حيويَّة. ففي عام 2024 استحوذتِ المنافذ البحريَّة على (77%) من حجم التَّبادل التِّجاري للسَّلطنة، بقِيمة تجاوزتْ (16.5) مليار ريال عُماني، وحقَّقتِ الموانئ العُمانيَّة قفزات نَوْعيَّة في حجم المناولة، حيثُ بلغ إجمالي البضائع المتداولة (137) مليون طن، بزيادة (15%) عن العام السَّابق، وارتفعتْ مناولة البضائع السَّائبة في ميناء صحار بنسبة (72%)، بَيْنَما شهدَ ميناء الدُّقم قفزةً غير مسبوقة بلغتْ (152%)، أمَّا في قِطاع الحاويات، فقَدِ استقبل ميناء صلالة وحْدَه (3.3) مليون حاوية، فيما استقبل ميناء صحار نَحْوَ مليون حاوية نمطيَّة، هذه المؤشِّرات تعكس بوضوح أنَّ السَّلطنة لم تكتفِ بِدَوْر المتفرِّج في سباق التَّنمية، بل وضعتْ نَفْسَها على الخريطة العالَميَّة كمركزٍ لوجستي صاعد، مستفيدةً من موقعها الاستراتيجي، وتحديث بنيتها الأساسيَّة، وتعزيز قدراتها التَّشغيليَّة.

إنَّ قصَّة الموانئ العُمانيَّة ليسَتْ مجرَّد قصَّة نجاح اقتصادي، بل هي ملحمة تاريخيَّة تتجدَّد في كُلِّ عصر، فسلطنة عُمان تتحوَّل مُجدَّدًا إلى مركز لوجستي عالَمي، حيثُ يظلُّ البحر جزءًا لا يتجزأ من الهُوِيَّة العُمانيَّة، فمع كُلِّ سفينة ترسو، وكُلِّ حاوية تحمل، وكُلِّ اتفاقيَّة تُوَقَّع، تكتب عُمان فصلًا جديدًا في رحلتها نَحْوَ المستقبل، فالرِّهان على الموانئ لم يكُنْ مجرَّد خيار، بل كان قرارًا استراتيجيًّا يعكس إدراك القيادة الحكيمة لقوَّة البحر، ليس فقط كطريقٍ للتِّجارة، بل كنافذة على العالَم، وجسرٍ نَحْوَ الغد.. فالسَّلطنة اليوم ترسم مسارها نَحْوَ التَّميُّز، واضعةً نصبَ عَيْنَيْها أنْ تكُونَ وجهة لوجستيَّة عالَميَّة تنافس موانئ الشَّرق والغرب، إذ إنَّ الموانئ ليسَتْ مجرَّد منشآت خرسانيَّة أو أرصفة تمتدُّ على سواحل البلاد، بل شرايين تنبض بالحياة، تنقل البضائع، وتفتح الأسواق، وتخلق الفرص، وتُعزِّز التَّواصُل مع العالَم. ومع كُلِّ خطوة تُتَّخذ نَحْوَ تطويرها، وتحسين الكفاءة التَّشغيليَّة، وتوسيع الطَّاقة الاستيعابيَّة، تثبتُ عُمان أنَّها ليسَتْ فقط وارثةً لِمَجدٍ بحري قديم، بل هي صانعة لمستقبلٍ اقتصادي واعد، لِتكُونَ نموذجًا يُحتذَى به في كيفيَّة تحويل التَّاريخ إلى فرصة، والموقع الجغرافي إلى قِيمة اقتصاديَّة، والطُّموح الوطني إلى إنجازات ملموسة على أرض الواقع.