الأربعاء 02 أبريل 2025 م - 3 شوال 1446 هـ

العدول فـي القرآن الكريم وأهم دلالاته البلاغية والتربوية

السبت - 22 مارس 2025 01:14 م

«العُدولُ فـي البِنْيَة وأثره فـي الدلالة القرآنية التذكير والتأنيث فـي الفعل «نماذج من القرآن الكريم» «3»

.. وتلك سمةٌ من سمات القرآن الكريم: أنه إذا تكلم عن معنى جعل الصيغة متناغمة معه، حتى لو حدث فيها عدل، أو انحراف لجاء بالكلمة معدولا عنها إلى غيرها، ومُنْحَرَفًا بها عن قياسها، وهنا قد انحرف بالحال من الاشتقاق إلى الجمود ظلما في البنية، يحكي ظلمًا للملك، فهي متناغمة مع السياق الذي وردت له، وسيقت لأجل بيانه، وشغْل مَقَامِهِ، فكما أن سياق المعنى ظلمٌ بيِّنٌ يقع على الفقراء، وأصحاب السفن من الملك، فكذلك البنية في اللفظة قد أحاط بها الظلم هي الأخرى، ومضت مظلومة ولانتزاع حقها مكلومة تحكي سياقها، وتكشف عن هدف العدول فيها، ومجيئها على غير ما لها، ومخالفتها قياسها، وظاهر قاعدتها، فكلُّ الجملة انقلبَ حالُها، فالخبر تقدم والأصل تأخيره، والأصل أن يأتيَ وصف الظلم للملك، أي ملك ظالم فحُذِفت الصفة، وجاء الفعل مضارعًا، يحكي أنه يكون كذلك في كل وقت، دونما خوف، وتأتي (كل) لتفيد الإحاطة، وشدة الظلم، وتنكير (سفينة) كأنها تدمع من قسوة الظلم، وتعدده، وتنوعه، وبلوغه حدًّا، وشَأْوًا بعيدًا، ثم تأتي البنية الحالية للكلمة (غصبًا) مقلوبة مظلومة متحولة ـ ظلمًا وعدوانًا على حرمتها ـ من مشتقة إلى جامدة، لا بمكنها التفوهُ بظلمها، وليس في وُسعها طلبُ اعتدالها من الانحراف الذي حُمِلتْ إليه، وأُكْرِهَتْ عليه، وقبلت جمودها، وكتمت حزنها في نفسها؛ خوفًا ووجلًا من الظالم المعتدِي على الصيغة الصرفية اللفظية، والتعدِّي على السفينة المادية، فاتحد الظلم: صيغة وواقعًا، وتماشى المعنى مع اللفظ، واتفقت الدلالة مع الاختلال الحاصل في البنية، وتلك قمة البلاغة.

ولو جاءت كلمة غصبا مشتقة، أي:(غاصبًا إياها، أو مغصوبة) لضاع الغرض البلاغي من مخالفتها، ولما توقف النحويون عند هذا المعنى الدقيق للمخالفة، ولمضوا دون التوقف أمامه، والعَبِّ من بلاغته، والشرب من جمال رِيِّهِ، وكمال بيانه.

والنموذج الآخر للعدول في الفعل من تذكير إلى تأنيث، والعكس من تأنيث إلى تذكير هو قوله تعالى:(قالت الأعراب آمّنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا..) (الحجرات ـ ١٤).

هنا في هذا القول الكريم جاءت كلمة (الأعراب)، وهي جمع أعرابي (جمع تكسير)، وجاء الفعل معها منتهيا بتاء التأنيث:(قالت)، وهنا منشأ التساؤل: أنه من المفترض أنه إذا كان الفاعل مذكّرًا فإن فعله يأتي مذكّرًا أيضًا، ودون تاء تأنيث، فيقال:(قال محمد، وتحدث زيد، وعقَّب محمود).. وهكذا، ولكنْ هنا قاعدة مهمة في علم النحو في باب تذكير الفعل وتأنيثه، ومواضع جواز ذلك، أو وجوبه: أنه إذا كان الفاعل جمع تكسير جاء التأنيث في فعله، والتذكير، نقول:(جاء الرجال، وجاءت الرجال)، و(قال الأعراب، وقالت الأعراب)، فيكون التذكير والتأنيث واردًا على سبيل الجواز، لكن نتخطِّى تلك القاعدة النحوية لنعيش في جمال، وجلال التأنيث، ولا نقف عند حد القاعدة النحوية، ولكنْ نستبطن جمالَ اختيار التأنيث هنا، ولعله من بين ما ذُكِرَ في ذلك أن هؤلاء الأعراب قالوا قولا، ولم يلتزموا به، وأُمِرُوا بشيء، وخالفوه، والرجال يُعرَفون بوقوفهم عند كلمتهم، حتى ولو دفعوا فيها رقابهم، والغالي والنفيس، والطارف والتليد، فهم أصحاب كلمة، يثبتون عندها، ولا يفارقونها، ولو مزقوا تمزيقا، ولكنهم هنا قالوا آمنّا، ومقتضى الإيمان، وتكاليفه كبيرة جدا، منها.

د. جمال عبد العزيز أحمد

 جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية

[email protected]