نعيش في زمن المفارقات، زمنٍ تغيَّرَ فيه الكثير من المفاهيم والقِيَم، زمنٍ باتَ التَّناقض فيه أمرًا مألوفًا. فشَهْر رمضان هو شَهْر الزُّهد والتَّقوى، والتَّقليل من تناول الطَّعام، لكنَّه في كثير من المُجتمعات أصبح موسمًا للاستهلاك المُفرط في الطَّعام، حيثُ تمتلئ الأسواق بالمتسوِّقين، وتُرمى كميَّات هائلة من الطَّعام، وترتفع ميزانيَّات الأُسر بشكلٍ غير مبرَّر. فكيف تحوَّل شَهْر الصِّيام إلى شَهْر الإسراف؟ ولماذا يزداد الاستهلاك في وقت يُفترض أن يكُونَ وقت الاعتدال؟
فدعونا نوَجِّه أصابع الاتِّهام إلى العادات والتَّقاليد، حيثُ تلتزم بعض الأُسر بعادات قديمة تجعل من الإسراف والتَّفاخر بالمأكولات جزءًا من العادات الرَّمضانيَّة، حيثُ تمتلئ الموائد بأنواع لا تُحصى من الأطعمة، رغم أنَّ أفراد الأُسرة لا يستطيعون تناوُلَ نِصْفِها. وكذلك الحال في الولائم الجماعيَّة وإفطار العائلة الكبيرة والَّتي تزيد من الضُّغوط على الأُسر لإعداد موائد ضخمة، خوفًا من الانتقاد أو بدافع الكرم المبالغ فيه، فتتحوَّل بعض الموائد إلى استعراض اجتماعي للأطعمة، حيثُ تُقدَّم أطباق كثيرة فقط للزِّينة، دُونَ رغبه فعليَّة لتناوَلِها، وجميعنا نلاحظ أنَّ نسبة هدر الطَّعام تزداد بشكلٍ كبير في رمضان، حيثُ تُرمى بقايا الطَّعام بعد الإفطار، رغم إمكانيَّة حفظها أو التَّبرُّع بها. كما أنَّ شراء المواد الغذائيَّة بكميَّات أكثر من الحاجة من معلَّبات والأجبان وغيرها إلى درجة أن تنتهيَ صلاحيَّاتها قَبل استخدامها ممَّا يؤدِّي إلى تَلفِها ورميِها.. وفي الوقت الَّذي يتمُّ فيه هدر الطَّعام، هناك أُسَر لا تجد ما يكفيها، ممَّا يعكسُ غياب التَّوازن في توزيع الطَّعام، كما تلاحظ زيادة المصاريف في رمضان تؤثِّر على ميزانيَّة الأُسَر، وقد تتسبَّب في أزماتٍ ماليَّة للبعض خلال شَهْر رمضان، بل ويمتدُّ أثَر هذه الأزمات إلى ما بعد رمضان، رغم أنَّ الصِّيام يفترض أن يُقلِّلَ من الاستهلاك وليس العكس. فعادة المبالغة في توفير الأطباق الرَّمضانيَّة وطهيِها جرَّتِ التجَّار إلى فرصٍ ذهبيَّة للتَّسويق للمواد الغذائيَّة، فتستغلُّ الأسواق شَهْر رمضان لزيادة المبيعات، حيثُ تنتشر العروض المُغرية، ممَّا يدفع الكثيرين إلى شراء أكثر ممَّا يحتاجون؛ بدافع التَّخزين أو بسببِ «العروض المؤقَّتة» ويعتقد البعض أنَّ الجوع خلال النَّهار يجعلهم بحاجةٍ إلى كميَّات كبيرة من الطَّعام عِندَ الإفطار، ممَّا يؤدِّي إلى شراء كميَّات ضخمة وتحضير وجبات كبيرة، رغم أنَّ الجسم لا يحتاج سوى كميَّة معتدلة.. فتناوُل كميَّات كبيرة من الطَّعام بعد الصِّيام يؤدِّي إلى اضطرابات هضميَّة وزيادة الوزن، فنبتعد عن الحكمة من الصِّيام، ونبتعد عن فضائله، فنُصاب بمشاكل صحيَّة، كما أنَّ البِطنة تُقلِّل من قدرتنا على العبادة كالصَّلاة، وتُقلِّل من تركيزنا في قراءة القرآن، فيبتعد النَّاس عن العبادة، وينشغلون بالتَّسوُّق وإعداد الموائد بدلًا من التَّقرُّب إلى الله تعالى بكثرة العبادة.
تلك مُشْكلة اجتماعيَّة قديمة طالَما ناقشَها النَّاس، ولكن لا بُدَّ من وضع الحلول للتَّخفيف مِنْها. فعلى سبيل المثال، الالتزام بالتَّخطيط المُسبق للميزانيَّة الرَّمضانيَّة، وتحديد المشتريات حسب الحاجة، وتجنُّب التَّخزين والشِّراء العشوائي، وخير وسيلة هي طلبُ السِّلعة عن طريق الهاتف أو التَّطبيقات الذَّكيَّة عِندَ الحاجة لِمُدَّة أُسبوع فقط، وذلك تجنبًا للمبالغة للشِّراء بكميَّات كبيرة والتَّخزين، وتجنبًا للشِّراء العشوائي، وطهي كميَّات حسب الحاجة وعرضها في أطباق جميلة بدلًا من الاعتماد على تزيين طاولة الطَّعام بأطباقٍ كبيرة تحتوي أطعمة كثيرة.
ولنحاذرْ كُلَّ الحذَر من رميِ الطَّعام الفائض عن الحاجة، والتَّبرُّع به للمحتاجِين، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عَنْه ـ: قال رسول الله صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم: «مَن كان معه فضل ظهر فليَعُدْ به على مَنْ لا ظهرَ له، ومَنْ كان له فضل من زاد فليَعُدْ به على مَنْ لا زاد له، فذكَر من أصناف المال ما ذكر، حتَّى رأينا أنَّه لا حقَّ لأحَد منَّا في فضل» رواه مسلم. ولا يسري هذا الكلام على الفائض من الطَّعام فقط، بل أيضًا الفائض من الملابس والأواني المنزليَّة، وغيرها من الاحتياجات. فرمضان ليس شَهْر الطَّعام والتَّبذير، بل هو فرصة لتهذيب النَّفْس وتعزيز القِيَم الإيجابيَّة مِثل القناعة والتَّكافل. فإذا ما تعلَّمنا كيف نستهلك بحكمة، سنجد أنَّ رمضان يُمكِن أن يكُونَ شَهْر البركة والاعتدال، وليس موسمًا للإنفاق الزَّائد والهدر. فهل سنُعيدُ النَّظر في عاداتنا الرَّمضانيَّة هذا العام؟ ويبقى السُّؤال هل نأثم على التَّبذير في شَهْر رمضان؟ وهل سنكُونُ من إخوان الشَّياطين لقوله تعالى: في الآية (27) من سورة الإسراء (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)، فشَهْر رمضان شَهْر نحصد فيه الحسنات، وتجنُّب كسب الآثام... ودُمْتُم أبناء قومي سالِمِين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
Najwa.janahi@