لَطالَما ارتفعتِ الأصوات المستنكرة للجرائم المتكرِّرة بحقِّ الشَّعب الفلسطيني، ومع ذلك تظلُّ هذه الإدانات حبيسة التَّصريحات دُونَ أنْ تُترجمَ إلى خطوات ملموسة تُوقِف آلة القتل الصُّهيونيَّة المستمرَّة. فدائمًا ما يتحدَّث المُجتمع الدّولي عن حقوق الإنسان، لكنَّه يعجز عن حماية أبسط الحقوق حين يكُونُ المعتدي هو الاحتلال الصُّهيوني، فتمرُّ الجرائم مرور الكرام، وتُصدر البيانات الشَّاجبة، ثمَّ لا شيء يتغيَّر وتظلُّ يَدُ المُجرِم طليقةً محصَّنةً بسياسة المعايير المزدوجة الَّتي تجعل بعض الأنظمة فوق القانون دُونَ تحرُّك جادٍّ يفرض عقوبات حقيقيَّة، لِتبقَى هذه الإدانات مجرَّد حِبرٍ على ورَق، فيما يستمرُّ العدوان لِيحصدَ المزيد من الأرواح في ظلِّ حماية سياسيَّة وعسكريَّة تَضْمن له الإفلات من العقاب. فالتَّقاعس الدّولي لا يرسِّخ فقط الظُّلم، بل يمنحُ المُحتلَّ الضَّوء الأخضر للمُضي قُدُمًا في سياساته الإجراميَّة، متيقنًا أنَّ أيَّ تجاوز لن يقابلَ إلَّا بعبارات (القلَقِ البالغ) أو (الدَّعوة إلى ضبطِ النَّفْس)، وكأنَّ الضحايا مجرَّد أرقام في تقارير لا تتجاوز عتبة النَّشر الإعلامي.
في هذا الواقع المرير، تُصبح الحياة اليوميَّة اختبارًا للبقاء، حيثُ لا فرقَ بَيْنَ اللَّيل والنَّهار، فالموت يَحُوم في كُلِّ لحظةٍ، والأطفال الَّذين كان من المفترض أنْ يلهوا في الشَّوارع، أصبحوا يختبئون في الأقبية، ينامون على وقْعِ أصوات القصف، ويستيقظون على أنقاض منازلهم، وفقدان ذويهم، رائحة الموت تسبقُ صرخات الضَّحايا، وتعلقُ في الهواء المُحمَّل بالغبار والدُّخان، بَيْنَما يتحوَّل البحث عن الطَّعام والماء إلى تحدٍّ يومي مستحيل.. فالأُسر الَّتي فقَدَتْ أحبَّاءها لا تملكُ رفاهيَّة الحداد، فهي مُجبرة على الفرار بحثًا عن ملجأ جديد قَدْ لا يكُونُ أكثر أمانًا من الَّذي سبَق، وفي ظلِّ الحصار يُصبح المَرض جريمةً يدفعُ ثمَنَها الأبرياء، حيثُ تُمنع الأدوية عن المحتاجين، وتُغلَق المعابر في وجْهِ مَنْ يحتاجون إلى علاج عاجل، فلا وقتَ للأحلام في هذه البقعة المنكوبة، ولا مكانَ للبراءة في عالَم لا يرَى سوى مصالحه، بَيْنَما تُسرقُ طفولةٌ بأكملها تحت الرَّكام. لم يَعُدِ اللَّيل وقتًا للرَّاحة، بل صار مساحةً مفتوحة للخوف، حيثُ لا أحَد يَضْمن أنْ يفتحَ عَيْنَيْه مع طلوع الفجر.
حين تُبرمُ التَّهدئات بعد جولات من العدوان، لا يدومُ الأمان طويلًا، فسرعان ما تَنقُضُ دَولة الاحتلال الصُّهيوني التزاماتها، وتَعُودُ لِتُغرقَ المنطقة في دائرة جديدة من القصف والدَّمار.. في كُلِّ مرَّة تُبرم فيها اتفاقيَّة يكُونُ واضحًا أنَّها ليسَتْ سوى استراحةٍ قصيرة قَبل جولةٍ أخرى من التَّصعيد، إذ لا يُمكِن لكيانٍ قائمٍ على العدوان والإرهاب أنْ يحترمَ أيَّ اتفاقيَّات، حيثُ يهرب قادة الاحتلال من أزماتهم الدَّاخليَّة بافتعال حروبٍ جديدة، مستخدِمِين الدَّم الفلسطيني وسيلةً لإطالة بقائهم في السُّلطة، ولا شيء يوقفهم عن التَّصعيد؛ لأنَّهم يُدركون أنَّ العالَم لن يُعاقبَهم، وأنَّ الإدانات ستتلاشَى مع مرور الوقت، كما حدَثَ في كُلِّ مرَّة من قَبل.. أيُّها العالَم يَجِبُ أنْ تُدركَ أنَّ الصَّواريخ لا تهطل فجأة، بل تأتي بقرارٍ مسبقٍ يهدف إلى تحقيق مكاسبَ سياسيَّة.. وللأسف، فإنَّ مَنْ يدفعُ الثَّمَن هُمُ الأبرياء الَّذين لم يكُنْ لَهُم يَدٌ في الصِّراعات، لكنَّهم يجدون أنْفُسهم في قلبِ العاصفة، بلا حمايةٍ أو مفرٍّ.
ورغم هذا الخراب، يبقَى الأملُ متجذرًا في النُّفوس، والحقائق لا يُمكِن طَمْسُها مهما حاول الاحتلال تزوير الواقع، فالمقاوَمة بأشكالها المختلفة تظلُّ صوتًا يرفضُ الاستسلام، وتؤكِّد أنَّ القهرَ لن يُصبحَ قدرًا دائمًا. لكنَّ الحقيقةَ الواضحة هي أنَّ غياب الرَّدع الدّولي هو ما يُتيح استمرار هذه الجرائم، ما لم تتغيَّرِ المعادلة، وما لم يُحاسبِ المُجرِمون على أفعالهم، فإنَّ دوَّامة العُنف ستظلُّ مستمرَّةً، فالمسؤوليَّة لا تقعُ فقط على مَنْ يُمارس القتل، بل أيضًا على مَنْ يسمحُ له بذلك بالصَّمْتِ أو التَّواطؤ، والعدالة ليسَتْ شعارًا يُرفع في المناسبات، بل التزام حقيقي يَجِبُ أنْ يُنفَّذَ، وإلَّا فإنَّ العالَم بأسْرِه سيظلُّ شريكًا في هذا النَّزيف المستمرِّ، والتَّاريخ لن ينسَى المواقف، وسيظلُّ يُسجِّل أسماء مَنْ وقفوا صامتين أمام المذابح، كما سيُسجِّل أسماء مَنْ قاوَمُوا واستمرُّوا رغم كُلِّ شيء.