قراءة ــ بدرية البدري:
لم أعتد قراءة الإهداءات، ولا أعلم ما الذي دفعني لقراءة الإهداء الذي كتبته رحمة في بداية مجموعتها، والتريث في قراءة كل كلمة فيه حتى وقعت عيني على النصيحة التي وجهها لها والدها نجيب البحيري (لا تكتبي كلاما، الكل يتكلم، كوني الوطن لكي تحسي بالألم). من المثير في المجموعة أنها جاءت تونسية حتى الصميم، بدءا من غلافها الذي جاء كوجه من وجوه تونس بمدنها العتيقة وقيروانها وتاريخها، كما بدأت بقصائد لشعراء تونسيين، قصائد عبرت عن حنينها لتونس وهي المقيمة في سلطنة عمان، منها قصيدة للشاعر محمد الغزّي يقول فيها:
(مهلا فقد يتعاتب الأحبابُ
بعض الهوى يا قيروان عتابُ
إني الذي ما تُبت عن وجع الهوا
لما الكثير من الأحبة تابوا)
ودعوني أعترف أني أحب هذه النوعية من الكتب التي تجعلك تحب بلد الكاتب، وتحرضك على السفر لمعايشة ما قرأته، فيقترن معك الكتاب بالبلد، ويجبرك على الاحتفاظ بالكثير من التفاصيل الواردة فيه. بعد هذا التصدير جاءت مقدمة أ. د. منصف الوهايبي، وليعذرني لأني لن أترك عادتي هنا فأنا أحب استكشاف الكتب بنفسي، لأني أعتبر الكتب بمثابة المدن التي لا يُغني وصفها عن التجول في طرقاتها، ولا أحب قراءة أي كتاب مدفوعة برأي مسبق حوله، لذلك لا أحب تصدير كتبي بأي قراءات أو انطباعات نقدية عنها، وأترك للكاتب أحقية استكشافها بحرية تامة دون التدخل غير المباشر في رأيه.
احتوت المجموعة تسع قصص حملت العناوين التالية: (القنّاص، الحَمّام، لسوادي حلاوة، قرية السوالم، حورية الكلاتوس، مرشي الهجاجل، علي ولد الحوّات، شجرة البول العملاقة، العربيّة وسيعة) وبرغم أن إحدى القصص حملت عنوان الكتاب (لسوادي حلاوة) إلا أن الجملة تكررت أكثر من مرة في الكتاب، مما دعاني إلى التساؤل عن سر العنوان.
تقول مرفت يس (القصة القصيرة على تكثيفها واختزالها يعد العنوان فيها تكثيفا آخر، له أهميته وقيمته كرسالة والتي قد تصل بمجرد قراءة العنوان أو تكون قيمتها مؤجلة لما بعد الانتهاء من النص فتتكشف دلالة العنوان) 1 وهذا ما توافق مع عنوان المجموعة القصصية الذي لم أفهمه إلا بعد الانتهاء من قراءة أغلب القصص، لأجد أن الكاتبة لم تقصد السواد كلون، وإنما كحالة أو واقع سوداوي يحمل نهاية فيها الخير والأمل، لتنتهي كل قصص المجموعة نهايات ترسم ابتسامة على شفاه القارئ، رغم أن بعض القصص انتهت بشكل سريع، أو بمعنى أدق تحولت فجأة من العقدة إلى النهاية، في استعجال ربما من الكاتبة في إنهائها.
قصص المجموعة كلها ارتدت جُبّة تونسية، ومشت بنا بين حواريها، وخاصة القيروان، مهبط رأس الكاتبة، فاصطدمنا بأهلها وتبادلنا معهم الحكايات التي نجحت الكاتبة في جعلي أتماهى معها وكأنها تحدثني عن نفسها في أغلبها، ولم تكن مجرد ساردة لقصص من نسج خيالها دخلت بها العالم القصصي من خلال إصدارها الأول (لسوادي حلاوة)، حتى أنني في لحظة ما شعرت بيد الحارزة تسقط على يدي لتُسقط منها حبة الدواء التي تحاول منيار أخذها في قصة (الحمام) بعد أن كاد قلبي يتوقف خوف أن تأخذها وتختفي كما اختفى غيرها الكثير من الفتيات، وقد تحدث الناقد شوقي بدر يوسف في كتابه هاجس الكتابة عن هذا التأثر فقال (تعتبر هوية المرأة في ذاتها والتعبير عن هذه الهوية هو الإبحار داخل ذاتها، وفي أعماق نفسها من خلال التطرق إلى واقعها وسط الحريات المتاحة وغير المتاحة والبحث داخل هذا العالم عن مكونات هذه الهوية الأنثوية، ويعد مفهوم الكاتبة عند المرأة هو ما تبقى لها لتقوله إبداعيا من خلال هويتها الذاتية، ومن خلال تجليات التعبير الأنثوي الذي تجسده وتعبر عنه) 2، وكما أن القصص سردت الواقع التونسي المعاصر إلا أن الكاتبة استعانت بالأساطير لتُضفي نوعا من التُراثية على قصصها كأسطورة بانيت الأمازيغية.
من الأشياء التي لفتت انتباهي أيضا في المجموعة أغنية تونسية تراثية كتبها الشيخ العفريت، هذه الأغنية أشبه بفن الميدان معنا في عمان، وتقول كلماتها:
(في البريمة، الأيام كيف الرّيح في البريمة
في البريمة، غربي و شرقي ما يدومش ديما
وللصبر ما باشي، صبرت قلبي للصبر ما باشي
أنا صابرة والنار لهبت جاشي
وصابرة عزامة، يا عيني كوني صابرة عزامة
الصبر حكمة والفرج قدامه
الصبر ما كيفه دواء لليعة)
إن هذا النوع من القصائد موجود تقريبا في كل الوطن العربي، فكما قلت يُسمى في سلطنة عمان بفن الميدان، وهو نفسه الأبوذية العراقية والموال المصري والعتابا الفلسطينية، وهي عبارة عن مربعات شعرية تكتب على بحر الوافر، وتنتهي الأشطر الثلاثة الأولى منها بقافية مشتركة، غالباً ما تكون نفس اللفظة، ولكن بمعانٍ مختلفة. 3، وقد تتشابه الأشطر الأول والثاني والرابع في القافية في حين يختلف الثالث كما في فن الميدان في سلطنة عُمان، وأذكر مثالا عليه المقطع التالي:
(ياللي تظنّ الحياة سهلة
وكلْ ما بغيته استويت أهله
حظّك من الزين شوفة عين
والزين يرجع لحضن أهله) *كلماتي.
مجموعة (لسوادي حلاوة) هي المجموعة الأولى للكاتبة رحمة البحيري، وقد صدرت في العام 2021م عن دار بورصة الكتب، التي تعد الاستثناء الوحيد البعيد عن تونس في المجموعة، إذ أنها دار نشر مصرية.