الأحد 30 مارس 2025 م - 30 رمضان 1446 هـ
أخبار عاجلة

العدول فـي القرآن الكريم وأهم دلالاته البلاغية والتربوية

الثلاثاء - 18 مارس 2025 01:50 م
20

«العُدولُ فـي البِنْيَة وأثره فـي الدلالة القرآنية التذكير والتأنيث فـي الفعل «نماذج من القرآن الكريم» «1»


ذكرنا ـ فيما سبق ـ أن العدول هو مجيء اللفظ على خلاف مقتضى الظاهر، ومخالفة القياس، والقاعدة الصرفية أو النحوية، وعدم جريانها على الضابط الموضوع لها من قبل الصرفيين والنحويين؛ وذلك لعلة كبرى، وحكمة عظمى تبدو لنا وتتكشف من خلال السياق والمعنى العام للآيات التي ورد فيها هذا العدل، أو ذاك الانحراف، وهو عدل مقصود، وله نماذج كثيرة في النصوص القرآنية، سواء أكان عدولا في الحركة، أم كان عدولًا في البنية أو اللفظة، أم كان عدولا في التركيب، أو الإعراب، أو عدولا فيما تعارف عليه العرب، والبلاغيون.

وسنعرض هنا شيئًا من تلك النماذج وندور حول تحليلها، والبحث عن دلالة العدول، ومعاني الانحراف؛ لنرى بلاغته، وجمال بيانه، وأنه لو كان جاء على الأصل وترسم القياس، وورد على وفاق القاعدة لما حقق المقصود، ولضاع الغرض البلاغي، والبياني المراد.

يقول الله تعالى:(وَكَانَ وَرَاءَهم مَلَكٌ يَأخذُ كُلَّ سَفِينةٍ غَصبًا) (الكهف ـ ٧٩)، هنا تتحدث الآيات عن ملك ظالم تعدى كل الحدود فهو يأخذ كل سفينة صالحة للعمل رغما عن أهلها، وصلفًا وكبرًا، وظلمًا وعدوًا، ولا يسمع لأنَّات أصحابها ولو كانوا فقراء يتعايشون من ورائها، وما يمكن أن توفره من سبل العيش الكريم، فهو ملك مغتر بقوته، مفتخر بعزوته، ضارب بكل القيم عرض الحائط.

وكان هناك عبد قد علمه الله، وآتاه علما من لدنه، فهو يعمل به، ويطهر الأرض من بعض رجالاتها الأنجاس، الذين يرتكبون الأرجاس، ولا يعبؤون بقيم، ولا يأبهون لأحد، هذا الرجل الصالح اسمه ذو القرنين، آتاه الله العلم والحكمة، وأطلعه على أمور كبيرة، ووضع في يديه وعقله قوة، وحكمة، وسعة رؤية، وشامل نظرة:(فَوَجَدَا عَبدًا مِن عِبادِنا آتيناهُ رحمةً مِن عِندِنا، وَعَلّمنَاه مِن لدُنّا عِلمًا)، والعلم اللدني لا يعرف معظم البشر، يختص الله به بعض عباده الذين اصطفاهم لإخلاصهم، وحسن رقابتهم، وجليل وصالهم بربهم، وصدقهم في توجههم، وعبادتهم، ودوام سجودهم لربهم، وهم موجودون في كل عصر ومصر، ويجعل دعاءهم مستجابًا، وكلامهم راقيًا مستطابًا.

رأى سيدنا موسى معه العجائب ولم يصبر كثيرا على شروط السفر والتنقل معه ثم لما أكثر السؤال له والعتاب، فسر له السبب الذي جعله يتصرف ذلك التصرف، ويعمل هذا العمل الذي يبدو ظاهرا سيئا، لكنه في الباطن والحقيقة هو عين الصواب، وينبوع الحكمة، وهو التصرف الذي يجب أن يكون حتى تسير مركبة الحياة هانئة مستقرة.

أبحر سيدنا موسى معه فلما ركبا السفينة خرقها، أي: أحدث فيها خرقًا أعابها، فأمست لا تجري في البحر، ولا تتمكن من مَخْرِ عُبابه، وإلا غرقت بكل من، وما فيها، والظاهر أنه أحدث فيها فسادا، وأنه سيغرق مَنْ فيها، وأنه سلوكٌ غريبٌ، يتطلب العتابَ، والتعنيفَ؛ ومن ثم قال له سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ له:(أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرًا)، إنه أمر لا يعقل، ولا يجوز أن يفعله عاقل، حصيف.

نتقادٌ دون تروٍ، أو تمحيص، وقَسَمٌ في غير موضعه؛ لأن الرجل علَّمه الله ما لم يعلِّمه بشرًا غيره، وجعله مختصًّا بعلم المستقبل، فاهمًا طبيعةَ تصرفات الناس قبل حدوثها؛ ويسعى لإصلاح ما يفسده بعضُ المتكبرين، المتجبرين، المتسلطين في الكون.

د. جمال عبد العزيز أحمد

 جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية

[email protected]