الجمعة 09 مايو 2025 م - 11 ذو القعدة 1446 هـ

رأي الوطن : إعادة صياغة للدور الاقتصادي لقطاع اللوجستيات

السبت - 15 مارس 2025 06:35 م

رأي الوطن

50


في عصرٍ تُعادُ فيه هندسةُ مراكزِ الثِّقل الاقتصادي، تدركُ سلطنة عُمان أنَّ دَوْرها لم يَعُدْ يقتصرُ على كونها ممرًّا للبضائعِ أو محطَّةُ على خريطةِ التِّجارة الدّوليَّة، بل يتطلبُ تحوُّلًا استراتيجيًّا يجعلُها عقدةً مركزيَّة تربطُ الأسواقَ الإقليميَّة والعالَميَّة. فالاقتصاد الحديث لا يُكافئ فقط مَنْ يملكُ المواردَ، بل مَنْ يُحسِن إدارتَها، ويوَظِّف موقعَه الجغرافي بذكاءٍ لِيكُونَ أكثرَ من مجرَّدِ معبر، وتؤكِّد الاتِّفاقيَّات الأخيرة الَّتي وقَّعتها وزارةُ النَّقلِ والاتِّصالات وتقنيَّة المعلومات أنَّ الحكومةَ تسعَى لِمَا هو أكبر من مشروعاتٍ في البنيةِ الأساسيَّة، بل تُعَدُّ تعبيرًا عن نهجٍ يُعِيدُ تشكيلَ علاقةِ السَّلطنةِ بالحركةِ التِّجاريَّة، متجاوزًا دَوْرَ (المسهل) إلى (المحرك)، حيثُ يُصبح قِطاعُ اللوجستيَّات قوَّةً اقتصاديَّة منتِجة بحدِّ ذاتِه، لا مجرَّدَ خدمةٍ مساندة للصِّناعاتِ الأخرى، وهذه التَّحوُّلاتُ ليسَتْ رفاهيَّة، بل ضرورةٌ في عالَم تُهيمن عَلَيْه المنافسة، حيثُ تُصبح السُّرعةُ، والكفاءة، والتَّكاملُ بَيْنَ القِطاعاتِ عواملَ حاسمة في تحديدِ مَنْ يملكُ زمامَ المبادرةِ ومَنْ يتراجعُ إلى الهامش. إنَّ استثماراتِ الطُّرقِ ليسَتْ فقط حلولًا لحركةِ المرور، بل هي قراراتٌ اقتصاديَّة تُعِيدُ توزيعَ التَّنمية، وتجعلُ المناطقَ الدَّاخليَّة أكثر ارتباطًا بالأسواقِ العالَميَّة، ما يُحفِّزُ الاستثماراتِ المحليَّةَ، ويُقلِّلُ من الفجوةِ التَّنمويَّة بَيْنَ المُدُنِ السَّاحليَّة والمناطقِ الدَّاخليَّة، فازدواجيَّة طريق إزكي ـ نزوى، على سبيل المثال، ليسَتْ مجرَّدَ توسعةٍ، بل إعادةُ تصميمٍ لكيفيَّةِ تحرُّك الأفراد والبضائع، ما يعني تقليلَ تكاليفِ النَّقل، وزيادةَ كفاءةِ سلاسلِ التَّوريد، وجذْبَ مزيدٍ من الأنشطةِ الاقتصاديَّة الَّتي تعتمدُ على وجودِ بنيةٍ أساسيَّة قويَّة، فالطُّرقُ ليسَتْ مجرَّدَ مساحاتٍ مرصوفة، بل شبكاتٌ تتحكم في تدفُّقِ رؤوسِ الأموال، وتحوُّلاتِ الأسواقِ، ومدَى قدرةِ الاقتصادِ على الاستجابةِ للفرصِ والمخاطر. لهذا فإنَّ أيَّ استثمارٍ في البنيةِ الأساسيَّة للنَّقلِ يَجِبُ أن يُقرأَ من منظورٍ أوسعَ يتجاوزُ الإسفلتَ لِيشملَ التَّأثيرَ على الأنشطةِ الاقتصاديَّة ككُلٍّ، حيثُ تخلقُ الطُّرقُ المزدوجة أسواقًا جديدة بقدر ما تفتحُ مساراتٍ جديدة للحركة.

أمَّا الموانئُ فهي قلبُ التَّحوُّلِ العُماني في القِطاعِ اللوجستي، حيثُ لا تكتفي السَّلطنةُ بتوسيعِ قدراتِها الاستيعابيَّة، بل تُعِيدُ تعريفَ دَوْرِها في سلاسلِ التَّوريدِ العالَميَّة، فمرفأ شليم وجزر الحلانيَّات ليس مجرَّدَ نقطةٍ لتصديرِ منتَجاتِ المحاجر، بل مشروعٌ يُغيِّر معادلةَ الكفاءةِ والتَّكلفة في قِطاع التَّعدين، ما يجعلُ عُمانَ أكثرَ تنافسيَّةً في سُوقٍ عالَمي تُحدّدُ فيه الأسعارُ جزئيًّا بناءً على قدرةِ المنتِجِ على إيصالِ موادِّه بسرعةٍ وكفاءة.. هذه النَّقلة تُحَوِّلُ الموانئَ من مجرَّدِ نقاطِ عبورٍ إلى محاورَ اقتصاديَّةٍ تخلقُ فرصَ عملٍ، وتدعمُ الصِّناعاتِ المرتبطة، وتُعزِّزُ تكاملَ القِطاعِ اللوجستي مع القِطاعاتِ الإنتاجيَّة، كما يُمثِّلُ ميناءُ السُّلطانِ قابوس نموذجًا آخر لهذا التَّحوُّلِ، حيثُ لم يَعُدْ يُنظر إِلَيْه كمحطَّةِ استراحةٍ للسُّفن، بل كمنصَّةٍ تُقدِّم خدماتٍ متكاملةً تجذبُ الشَّركاتِ البحريَّة الكبرى، فإعادةُ تعريفِ الميناءِ كمنطقةِ خدماتٍ بحريَّة مُتخصِّصة تَعني أنَّ عُمانَ لا تنافسُ فقط على حركة الشَّحن، بل على صناعةٍ بأكملِها تَدُور حَوْلَ تقديم الخدمات للسُّفن وأطقُمِها، وهي سُوق تتطلب استثمارات ذكيَّة، وفهمًا ديناميكيًّا لاحتياجاتِ قِطاعِ النَّقلِ البحري المتغيِّرِ باستمرار. وتتواصلُ استراتيجيَّةُ التَّكاملِ اللوجستي بالاهتمامِ بالمطارات، حيثُ تحصدُ المطاراتُ العُمانيَّة جوائزَ عالميَّة تعكسُ ليس فقط جودةَ الخدمةِ، بل نجاحُ الرُّؤيةِ العُمانيَّة في جعلِ الطَّيران عنصرًا داعمًا لمنظومةٍ لوجستيَّة متكاملة، فلم يَعُدِ المطار مجرَّدَ بوَّابةٍ للمسافرِين، بل منصَّة تتكاملُ مع النَّقلِ البحري والبَرِّي لتقديمِ حلولِ شحنٍ فعَّالة تُلبِّي احتياجاتِ الشَّركات الَّتي تبحثُ عن سرعةِ الوصولِ بأقلّ تكلفة. فالنَّجاحُ هنا ليس في بناءِ منشآتٍ فاخرة، بل في خلقِ بيئةٍ لوجستيَّة تتمتعُ بالكفاءةِ التَّشغيليَّة، وتربطُ عُمانَ بشبكةِ التِّجارةِ العالميَّة بطريقةٍ تجعلُها جزءًا أساسًا من التَّدفُّقاتِ الاقتصاديَّة الكبرى، فهذه التَّحرُّكاتُ لا تهدفُ فقط إلى تحسينِ ترتيبِ السَّلطنةِ في المؤشَّراتِ الدوليَّة، بل إلى تثبيتِ موقعِها كمنافسٍ رئيسٍ في قِطاع لم يَعُدْ يرحمُ مَنْ يتباطأ في تطويرِ قدراتِه، فما نراهُ الآن يؤكِّدُ أنَّ رؤيةَ «عُمان 2040» ليسَتْ مجرَّدَ خططٍ على الورقِ، بل خطواتٍ عمليَّة تُعِيدُ هندسةَ الاقتصادِ الوطني لِيكُونَ أكثرَ تنوُّعًا، وأقلَّ اعتمادًا على مصدرِ دخلٍ واحد، وأكثر قدرةً على الصُّمودِ في عالَمٍ يتغيَّرُ بسرعةٍ لا تعرفُ التَّراجعَ.