الخميس 13 مارس 2025 م - 13 رمضان 1446 هـ
أخبار عاجلة

العدول فـي القرآن الكريم وأهم دلالاته البلاغية والتربوية «العدول فـي الرسم المصحفي ودوره البلاغي والتربوي والعقدي»

الأربعاء - 12 مارس 2025 01:00 م


نواصل الحديث عن العدول في الرسم المصحفي، وبيان أثره البلاغي، والعقدي، والتربوي، ونوضح لِم عُدِلَ عن الأصل، وخولفت القاعدة، وجاءت على غير المعتاد في الرسم، ونقدم محاولة لفهم الظاهرة القرآنية في مخالفة الأصل، والتعايش مع السياق، ونكشف عن أن لهذه المخالفة للقاعدة، والورود على خلاف الأصل قيمةً عظمى، وحكمةً كبرى، لا تتحقق لو جاء النص على الأصل، ووافق القياس النحوي، والصرفي، فهذه المخالفة، أو ذلك العدول مقصود إليه؛ وذلك لنقل معنًى جديد، وفائدة أكبر مما لو جاء على القياس النحوي، أو الصرفي، أو وافق الرسم المصحفي، أو الإملائي المتعارف عليه، ومن ذلك قوله تعالى:(يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (هود ـ 105).

إنّ السياق هنا هو سياق عظمة، والموقف موقف سرعة، والحديث يدور حول مجيء يوم القيامة، وأن الله إذا جاء بشيء أتى الشيءُ سريعًا لا يلوي على شيء، وترى الكلماتِ تجري جريًا حثيثًا، تستمع إلى أمر ربها، وتنفذه تنفيذا عاجلا من غير انتظار، وقد وَضَحَ هذا هنا في تلك الآية حيث رأينا الفعل:(يأت) فعل معتل الآخر، لم يُسبَق بجازم؛ حتى يُحْذَفَ آخرُه، وإنما هو في حالة رفع، ومع ذلك وجدناه قد خالف القياس، وصار فيه عدلٌ، وانحرافٌ إلى الحذف، رغم عدم تقدم الجازم، ولو عُدْنا إلى السياق لوجدناه يتناغم مع الحذف؛ فإن أمر الله لا يُثَنَّى، ولا يتأخر، فهو رهين (كن) (فيكون)، فالفعل عندما سمع (يأتي) تعجَّل الإتيان، وترك حَرْفَه (وهو الياء؛ لأنه ناقص يائي) تركه وجلًا وهلعًا، وخوفًا، وفزعًا، وسرعة استجابة، وجلال تنفيذ، وحُذِفَ منه ثلثُه، وهو لام الميزان فلم، يأبه للحذف، وسارع، وجاء، ولو جاء الفعل على الأصل، والقياس النحوي والصرفي لجاء بالياء (يأتي)، ولتأخر بُعَيْضَ الوقت، ولما كان في عدم سرعته معنى، ولا حكمة، ولَمَا حقَّق اللقطة الأخروية، والخوفَ التامَّ، والوجلَ الكبيرَ، ولكنه سمع الأمرَ، فسارع بالتنفيذ، وحُذِفَتْ منه ياؤه، فلم ينتظر مجيئها، وتعجَّل أن يأتيَ؛ إذعانا لأمر الله، وأعطانا صورةً كريمة جليلةً من صور الإصغاء التام، والتنفيذ السريع لأمر الله، وإرادته، ويترشَّح هذا المعنى، وتلك الدلالة بالفعل بعده:(لا تكلم) حتى حيث حُذِفَتْ منه تاء مضارعته، اكتفاءً بالتاء في أوله، مجاراةً للفعل (يأت) قبله الذي سارع بالمجيء، وأن الفعل:(تكلم) أصله، وقياسه (تتكلم)؛ لأن الفاعل مؤنث(نفسٌ)، وهو مضارع، ولكن التاء حذفت ـ كما يقول النحويون ـ لئلا تتوالى تاءان:(أي: لئلا يتوالى حرفان من جنس واحد)، لكنْ، لماذا حذف في هذا السياق الأخروي؟!.

أقول: لعل العلة في ذلك هو ما ذهبتُ إليه من أنَّ الصمتَ، وعدمَ الكلامِ يناسبه الحذفُ الذي يعني قلة الحديث، فتناغم الحذفُ هنا مع الصمت، وعَدَمِ الكلام، وتلك من خصائص الكتاب العزيز من أن البنية، أو اللفظة المأتيَّ بها تتناغمُ مع دلالتها التي وردت لها، وسِيقَتْ من أجلها، فكما أن النفسَ لا تنطق في هذا المقام الرعيب، الرهيب، فكذلك الكلمة صمتَتْ، وتبيَّن صمتُها من حذف حرف مضارعتها؛ تماشيا مع الدلالة الأخروية، والسياقية، وهنا دليل ثالث، وهو أن قوله:(فمنهم شقي وسعيد)، الأصل:(فمنهم صنفٌ شقيٌّ، ومنهم صنفٌ سعيدٌ)، فاكتفى القرآن الكريم ـ إمعانًا في الدلالة الأخروية والسرعة المطلوبة ـ بالموصوف عن مجيء الصفة، واكتفى بالخبر المتقدم:(منهم) عن أن يكرره في الجملة الثانية؛ تماشيا مع سياق السرعة الوارد في كل الآية، والذي يضعُنا في أجواء الآخرة، ولحظاتِها الرهيبة، الرعيبة، المخيفة، الصعبة، وقد رأينا كيف حقق العدولُ في الرسم المصحفي في الفعل:(يأت)، والعدول الصرفي في صيغة الفعل:(تكلم) المضارع المرفوع الذي حُذِفت منه تاءُ مضارعته، والعدول النحوي في التركيب؛ حيث حذف الصفة من كلٍّ من المعطوف، والمعطوف عليه، وحُذِفَ الخبر شبه الجملة من الجملة المعطوفة، كلُّ ذلك تمَّ ؛ ليضعنا في السياق الأخروي، ومقام السرعة، وموقف الخوف، حتى إن الكلمات يسقط منها أجزاءٌ، والفعل يسقط منه أحرفٌ، والتركيب يذهب منه كثيرٌ من كلماته، وأركانه الأساسية؛ ارتعادًا، وارتعابًا، خوفًا، ووجلًا، ارتقابًا، واستيعابًا لأمر الله، فكأن الكلمات نفسها أكثر فهما منا ـ نحن البشر ـ لسياقاتها، وإتقانًا لرسالتها، وإدراكًا مقاماتها.

د. جمال عبد العزيز أحمد

 جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية

[email protected]