هناك شكوى دائمة في منطقتنا من تسيُّد رواية الآخرين عنَّا وعن ما يجري من أحداث بشكلٍ يشوِّه الحقيقة ويعتمد على أحكام مسبقة. لعلَّ الحرب على غزَّة مثال صارخ على رواية الآخر عَنْها معتمدًا فقط جانب الاحتلال ومحملًا برؤية تقترب من العنصريَّة. ومنذُ عقودٍ نسمع أصواتًا تطالِبُ بأن تكُونَ لنَا منافذ تروي قصَّتنا من وجهة نظرنا، وليس من وجهة نظر الغرب. بل إنَّ البعض أطلقَ منافذ إعلاميَّة بالإنجليزيَّة وغيرها وأنتج آخرون أعمالًا فنيَّة تخاطب «الخواجات» على سبيل أنَّها تحكي قصَّتنا بأدواتنا. لكن كُلُّ ذلك ـ للأسف الشَّديد ـ لم يخرجْ من دائرة تأثير سرديَّة الآخر عَنَّا ولم يعكسْ في النِّهاية حقيقتنا ولا عرض ما يجري من أحداث بشكلٍ يخصُّنا أو حتَّى بموضوعيَّة تامَّة. ذلك لأنَّه في النِّهاية مَنْ يفعل ذلك يستخدم أدوات الآخر، بل وحتَّى يعتمد على ذات الموارد في الحكي والسَّرد والعَرض الَّتي ينتجها الآخر فيخرج المنتج الإعلامي والفنِّي والثَّقافي مشوهًا على أقلّ تقدير إن لم يكُنْ ضارًّا أكثر مِنْه نافعًا.
هناك مقولة شهيرة تتعلق بالإبداع الأدبي مفادها أنَّ «الإغراق في المحليَّة يَقُودُ إلى العالَميَّة». والحكمة مِنْها أنَّ أفضل مواجهة لرواية الآخر عَنْك هي أن تحكيَ أنتَ قصَّتك بلُغتِك وأدواتك ومواردك، حتَّى لو كانتْ محدودة، دُونَ أن تكُونَ «موجّهة». أي لا تقصد أن تردَّ على تشويه الآخر لك بالدِّفاع والنَّقد والهجوم، ولكن أن تركِّزَ على أصالة أن تحكيَ قصَّتك أوَّلًا لِنَفْسِك وأهْلِك ومُحيطِك. ثمَّ دعِ الآخر والعالَم كُلَّه يَنتبِه ولو بَعد حين، ولا تفترض مسبقًا أنَّ روايتك عن نَفْسِك لن تقابلَ إلَّا بالتَّجاهل والافتراء. فإذا كان سردُك أصيلًا وروايتُك محكمةً فستفرض نَفْسها دُونَ دعاوى خِطابيَّة وإنشائيَّة مِثل شعارات الغوغاء والدَّهماء. في محاولة أن نحكيَ قصَّتنا، كتَب الطَّبيب والقاصُّ المُبدع المصري الدكتور عاطف سليمان كِتابًا بعنوان «عُدْ إلى بيتِكَ يا ذا الطَّلعة البهيَّة» استغرق مِنْه سنوات بحثًا وتمحيصًا وتدقيقًا في «أحدوثة إيزة وأوزير»؛ أي أسطورة إيزيس وأوزوريس كما تعرف بتعبير الإغريق. ومن عنوان الكِتاب، يحكي الكاتب قصَّتنا نحن وليس ما حكاه الآخرون على مرِّ القرون معتمدًا التَّسمية المصريَّة القديمة وليس ما انتشر بتعبيرات «الآخر» من إغريق أو رومان أو غيرهم.
رُبَّما ليس الكِتاب الصَّغير الصَّادر عن الهيئة العامَّة للكِتاب في مصر بالموسوعة التَّاريخيَّة الَّتي تؤصِّل للأسطورة المصريَّة القديمة وتستعرض تأثُّر كُلِّ أساطير العالَم بها فيما بَعد. لكنَّه محاولة جادَّة لأن «نحكيَ قصَّتنا» بأصالة. رُبَّما لا يَعرِض الكاتب لِمَا أعرف أنَّه يؤرقه منذُ بدأ مشوار إبداعه الأدبي من «سطوة» سرديَّة الآخر عنَّا وعن تاريخنا وأُصولنا وأحداثنا القديمة والمعاصرة، لكنَّه اختار واحدة من أقْدَم الحكايات الَّتي رُبَّما تَعُودُ إلى بدء الخليقة «مغربلًا» الكثير من المصادر الأوَّليَّة من كِتابات البردي ونقوش المعابد لِيخلصَ إلى رواية مختلفة تمامًا عمَّا علقَ بها من شوائب لا تُعَدُّ ولا تُحصَى على مرِّ التَّاريخ. ليس فقط من نهجٍ غربي في اعتبار أنَّ الحضارة اليونانيَّة هي بداية تحضُّر البَشَريَّة على عكس الحقيقة التَّاريخيَّة الَّتي عادَ إِلَيْها البعض فيما بعد من أنَّ الحضارة المصريَّة القديمة هي الأصل، حتَّى في وجود أجنحة أُخرى في الشَّرق. فليس الكِتاب في النِّهاية دراسة أكاديميَّة في تاريخ الحضارة البَشَريَّة. لكنَّه في الوقت نَفْسِه يُعَدُّ نواة استثنائيَّة يُمكِن أن يَبنِيَ عَلَيْها الدَّارسون والباحثون الأكاديميون مشروعات كبرى لرواية تاريخنا بأنْفُسِنا بأصالة وموضوعيَّة.
لا يعني ذلك أنَّ الأديب الباحث لم يراجع كتابات «الآخر» المترجمة، ودراسات باحثين بالعربيَّة اعتمدتْ على مصادر «الخواجات». لكنَّه في رأيي اعتمد منذُ البداية حتَّى النِّهاية تحررًا من كُلِّ ما هو «مسبق» فيما يتعلَّق بتلك الأسطورة المصريَّة القديمة. وهذا ما جعلَ الكِتاب عملًا أصيلًا يعكس، دُونَ ادِّعاء أو «ثرثرة» مملَّة، كيف أنَّ أغْلبَ تراث العالَم ما هو إلَّا «تنويعات» على حكاية إيزة وأوزير. إنَّما من أهمِّ ما يميِّز الكِتاب فعلًا أنَّ القاصَّ الفنَّان اعتمد على لُغته في الحكي بما يجعل القارئ وكأنَّه يقرأ رواية أو قصَّة طويلة أكثر مِنْه يقرأ عملًا بحثيًّا بامتياز. لذا، لا تُنفِّرك في صفحات الكِتاب «معارضات» ولا انتقادات صارخة ولا دعاوى بطلان أو حتَّى منح مصداقيَّة مغالية لأيِّ جانب من جوانب «الحدوتة». مع ذلك، يَخلصُ القارئ بَعد الانتهاء من الكِتاب المُمتع حقًّا إلى ما أراد كاتبه أن يوصلَه: هذه حكايتنا منذُ ما قَبل التَّاريخ مصفاة نقيَّة قدر المستطاع لِمَن أراد أن يعرفَنا وكيف أثَّرنا في البَشَريَّة حتَّى قَبل أن يكُونَ هناك حضارة وسرد. وأتصوَّر بدُونِ تحيُّز كبير أنَّ من أراد الردَّ على افتراءات «الآخر» عَلَيْنا في كافَّة مناحي النَّشاط الإنساني فليسَتِ المعارضة والنَّقد والصّراخ عالي الصَّوت هو السَّبيل. بل محاولة الإبداع الأصيل كما فعل عاطف سليمان في كِتابه الصَّغير حجمًا والكبير أثرًا وتأثيرًا. فَلْنحكِ قصَّتنا بمهارة وإبداع وأصالة وحِرفيَّة عالية في كُلِّ ما ننتج من إعلام وفنٍّ وأدب وثقافة عمومًا إذا أردنا أن نواجهَ حكيَ الآخرين والَّذي نعدُّه مثقلًا بالغرض والهوى إلى حدِّ العنصريَّة أحيانًا.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري