الجمعة 14 مارس 2025 م - 14 رمضان 1446 هـ

رأي الوطن الحق فـي الغذاء .. برؤية إنسانية عادلة

الأربعاء - 12 مارس 2025 06:35 م

رأي الوطن

170

تُمثِّل قضيَّةُ الحقِّ في الغذاء واحدةً من أكثر التَّحدِّياتِ تعقيدًا في القرنِ الحادي والعشرين، حيثُ يتجاوزُ الأمْرُ مجرَّدَ تأمينِ الإمداداتِ الغذائيَّة، إلى كونِه مؤشِّرًا على عدالةِ النِّظامِ الاقتصادي العالَمي. فبَيْنَما تتوافرُ المواردُ الزِّراعيَّة بشكلٍ يفوقُ حاجةَ البَشَرِ، نجدُ أنَّ الملايينَ لا يزالونَ يعانونَ مِنَ الجوعِ وسُوءِ التَّغذية، والغريبُ أنَّ ذلك ليس بسببِ ندرةِ الغذاءِ، بل نتيجةَ سياساتٍ ماليَّة واقتصاديَّة تُكرِّسُ التَّفاوتَ بَيْنَ الدوَلِ الغنيَّة والفقيرة.. ولقَدْ جاءتْ مشاركةُ سلطنةِ عُمانَ في الحوارِ التَّفاعلي بجنيف للتَّأكيدِ على رؤيتِها العميقةِ لهذه الأزمة، حيثُ شدَّدتْ على أنَّ تحقيقَ الأمنِ الغذائي لا يُمكِن أنْ يكُونَ مجرَّدَ التزامٍ أخلاقي، بل هو واجبٌ إنساني يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بالاستقرارِ السِّياسي والاجتماعي. وهنا يَجِبُ أنْ نؤكِّدَ أنَّ الموقفَ العُماني، لم يكُنْ تقليديًّا أو مجرَّدَ مشاركةٍ دبلوماسيَّة، بل حمَلَ في طيَّاتِه دعوةً صريحة إلى إعادةِ النَّظرِ في السِّياساتِ الَّتي تجعلُ الغذاءَ متاحًا للبعضِ ومستحيلًا على آخرين، وهو موقفٌ يعكسُ التزامَ السَّلطنةِ الرَّاسخَ بالدِّفاع عن المبادئِ الإنسانيَّةِ والحقوقِ الأساسيَّة للإنسان، بعيدًا عَنِ المصالحِ السِّياسيَّةِ الضَّيِّقة.

إنَّ حديثَ سلطنةِ عُمانَ عَنِ الأزماتِ الاقتصاديَّة وتأثيرِها على الحقِّ في الغذاء، وعدَم الاكتفاءِ بالإشارةِ إلى ارتفاعِ الأسعارِ أو اضطرابِ سلاسلِ الإمداد كان موقفًا شجاعًا ـ خصوصًا عِندَ التَّطرُّقِ إلى الجذورِ الحقيقيَّةِ للمُشْكلة ـ والَّتي تكمنُ في النِّظام المالي العالَمي الَّذي يُثقلُ كاهلَ الدوَلِ النَّاميةِ بالدُّيونِ، ما يدفعُها إلى تحويلِ مواردِها من دعمِ الغذاءِ إلى سدادِ التزاماتِها الماليَّة. فالسَّلطنة تُدركُ أنَّ الأمنَ الغذائي لا يتحقَّقُ بمجرَّدِ زيادةِ الإنتاجِ الزِّراعي، بل يتطلَّبُ سياساتٍ اقتصاديَّة عادلةً تمنحُ الدوَلَ القدرةَ على حمايةِ شعوبِها من الأزماتِ الماليَّة. وفي هذا الإطارِ دعَتْ عُمانُ إلى تحقيقِ توازنٍ عادلٍ بَيْنَ الالتزاماتِ الماليَّة للدوَلِ وبَيْنَ متطلباتِ العيشِ الكريم لمواطنِيها، مشيرةً إلى أنَّ التَّضخُّمَ وانخفاضَ القدرةِ الشِّرائيَّة يُشكِّلانِ عائقًا حقيقيًّا أمامَ حصولِ الأفرادِ على الغذاءِ الكافي، وهو طرحٌ يعكسُ الرُّؤيةَ العُمانيَّة العميقةَ الَّتي لا تفصلُ بَيْنَ التَّنميةِ الاقتصاديَّة والبُعدِ الإنساني، بل تَعُدُّهما وجْهَيْنِ لعُملةٍ واحدة، وهو ما يعكسُ سياستَها الدَّاخليَّة الَّتي توازنُ بَيْنَ الطُّموحِ الاقتصادي والحفاظِ على حقوقِ المُواطِنِين.

إحدى النّقاطِ المحوريَّة الَّتي ركَّزتْ عَلَيْها سلطنةُ عُمانَ في هذا الحوارِ كانتِ الاستخدامَ غَيْرَ الأخلاقي للغذاءِ كسلاحٍ سياسيٍّ وعسكري، خصوصًا في النِّزاعاتِ المُسلَّحة، حيثُ يتمُّ فرضُ التَّجويعِ كأداةٍ للضَّغطِ على الشُّعوب، وهو ما يُشكِّلُ انتهاكًا صارخًا للقوانينِ الدّوليَّة، وإذ أدانتِ السَّلطنة هذه الممارسات، فقَدْ دَعَتِ المُجتمعَ الدّولي إلى التَّحرُّكِ العاجلِ لوضعِ حدٍّ لهذه الجرائمِ الَّتي تُهدِّدُ حياةَ الملايين وتهدمُ أُسُسَ الاستقرارِ العالَمي. الموقفُ العُماني هنا لم يكُنْ مجرَّدَ استنكارٍ، وإنَّما كان تأكيدًا على ضرورةِ اتِّخاذِ إجراءاتٍ عمليَّة لِمَنعِ استغلالِ الغذاء في الصِّراعاتِ السِّياسيَّة، وهو موقفٌ ينبعُ مِنِ التزامِ عُمانَ بمبادئِها الثَّابتةِ الَّتي تجعلُ مِنَ القِيَمِ الإنسانيَّة ركيزةً أساسيَّة لسياستِها الخارجيَّة، وهذا المبدأُ تجسَّدَ بوضوحٍ في مواقفِ السَّلطنةِ المختلفة تجاه القضايا الإنسانيَّةِ العالَميَّة، حيثُ تظلُّ عُمانُ دائمًا صوتًا للعدالةِ والتَّوازن، بعيدًا عَنِ التَّحيُّزِ والمصالحِ الضَّيِّقة، ما يجعلُها نموذجًا يُحتذى به في الدبلوماسيَّة الهادئة والفعَّالة في آنٍ واحد.

لم تكتفِ سلطنةُ عُمانَ بتشخيصِ المُشْكلة، بل قدَّمتْ حلولًا عمليَّة تهدفُ إلى خلقِ نظامٍ اقتصادي أكثر عدالةً واستدامة، حيثُ دَعَتْ إلى إصلاحِ النِّظام المالي الدّولي بحيثُ لا تكُونُ الدُّيونُ عبئًا يمنعُ الدوَلَ النَّامية مِنْ تحقيقِ الأمْنِ الغذائي، كما أكَّدتْ على ضرورةِ تعزيزِ السِّيادةِ الغذائيَّة من خلال دعمِ الإنتاجِ الزِّراعي المحلِّي وتقليلِ الاعتماد على الأسواق العالَميَّة الَّتي تتحكَّم فيها سياساتٌ احتكاريَّة، بالإضافةِ إلى التَّشديدِ على أهميَّةِ وضْعِ آليَّاتِ رقابةٍ دوليَّة صارمةٍ لِمَنعِ استغلالِ الغذاءِ كأداةٍ للابتزازِ السِّياسي، وضرورةِ تطويرِ سياساتٍ ماليَّة عادلةٍ تمنعُ التَّلاعبَ بأسعارِ الغذاء عالَميًّا، فهذا الطَّرحُ المتكامل لا يعكسُ فقط إدراكَ سلطنةِ عُمانَ لِعُمقِ الأزمة، بل يُعبِّرُ عَنْ رؤيتِها الطَّموحةِ لعالَمٍ أكثر إنصافًا، حيثُ لا يكُونُ الحقُّ في الغذاءِ مجرَّدَ شعارٍ نظري، بل حقيقةٌ ملموسة تَضْمَنُ لكُلِّ إنسانٍ حياةً كريمة.. وإذا كان العالَم جادًّا في مواجهةِ هذه الأزمة، فإنَّ تَبنِّي الطَّرحِ العُماني قَدْ يكُونُ خطوةً محوريَّة نَحْوَ نظامٍ اقتصادي أكثر عدالةً وإنسانيَّة.