الجمعة 28 مارس 2025 م - 28 رمضان 1446 هـ
أخبار عاجلة

العدول فـي القرآن الكريم وأهم دلالاته البلاغية والتربوية «العدول فـي استعمال الحرف ودلالاته الإيمانية» «4»

الثلاثاء - 11 مارس 2025 01:01 م
10

إن السير هنا ـ في رأيي وفق ما فهمت ـ نوعان، سير أفقي، وسير رأسي، وأعني بالرأسي السير في باطن الأرض من أعلى إلى أسفل، تثويرًا لها، وحفرًا بكل أدوات الحفر، والتنقيب الحديثة؛ بحثًا، وتنقيبًا، ودراسة، وتحليلًا في المعامل، واستخراجًا لما في باطن الأرض من خيرات الله، من المعادن، والذهب، والمياه الجوفية، ونحوها مما هو مركوز في باطنها، فقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:(لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) (طه ـ 6).

فقد لفت القرآن الكريم بها العدول الحرفي أنظارَ الخلق إلى الخيرات التي وضعها في باطن أرضه، حيث يُمْكِنهم اكتشافها، وحُسْنُ استغلالها في طاعته، واستثمارها في القرب منه، وعبادته، فالعلماء المتخصصون في الأرض، وعلومها يحسنون فهم تلك الآية فهمًا واسعًا ودقيقًا وعمليًا، وكل يوم يكتشفون جلالها من: بترول، ومعادن متعددة، وأحجار يُشَيُّدونَ بها القصور، ومن رخام يزينون بها أرض قصورهم ودورهم، وبيوتهم، ونحوه مما نشاهده، ونقرأ عن اكتشافه يوما بعد يوم، فالسير الأفقي يكشف لنا عن حجم النعم، ومدى اتساع المنن التي وضعها الله في أرضه؛ لينتفع بها عباده، ويسخِّرونها لطاعة ربهم، ولعل هذا هو أحد دلالات العدول الحرفي من استعمال (في) مكان (على)، فهذا ظرف، وقد وقفنا على دلالته الظرفية بالسير من النوع الأول، وهو السير الرأسي، أي: السير داخل الأرض؛ تحقيقًا للظرفية التي تعنيها (في) في أصل وضعها، فكأنها بحفره ونزوله في باطن الأرض، وظرف الأرض له قد حقق ظرفية (في)، ثم بعد فترة طالت أم قصرت يكتشف لنا اكتشافات كبيرة، ونافعة، وتكون محل اهتمام، وترفع من اقتصاد تلك الدولة التي استثمرت عقول أبنائها في الكشف عن ثرواتها المذخورة والمركوزة في باطن الأرض، والتي تبين رحمة الله بعباده في جميع مراحل وجودهم في الحياة الدنيا، وفي كل حقبة يكتشفون دلالة (في)، ويحمدون الله على نعمه، ومننه.

وأما السَّيْرُ الأفقي فنعني به السيرَ في الأرض كلِّها: جنوبًا وشمالًا، وشرقًا وغربًا؛ لأخذ العِبَر، وفهم وإدراك العظات التي يستعين بها في الحياة، فيرى مصارعَ الظالمين هنا، ويعاينها مما حكاه الله تعالى في كتابه الكريم، وما ذكره رسوله عمن كانوا قبلنا، ومآلات المتقين هناك، وخواتيم عمل الصالحين هنالك؛ لتكون عونا للمرء على السير في الحياة طوال عمر الأرض بصورة واضحة؛ كما قال تعالى:(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم) (الانفال ـ 42)، ويعايش أصناف الناس تجاه دينهم، وربهم، ومع أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ ومن ثم تجد نهايات الآيات يُذْكَرُ فيها العواقب الوخيمة، وكذلك النتائج للكريمة، سواء أكانت للعاصين، أما وردت للمؤمنين، لأهل الشرك والباطل، ولأتباع الإيمان والحق، فيمضي المرء في حياته على بصيرة، ونور، وإدراك لرسالته، وفَهْمٍ لوظيفته، وكَشْفِ عن الغرض من خلقه، وهو طاعة ربه، وعبادته، فهي سياحة اعتبار، وتنقلات وسفر نظر في أحوال الأقطار، وما حدث لها في ليلها والنهار، من الله العزيز الرحيم، القوي الجبار، فيمضي في حياته عن وعي، والتزام، وصدق، ورقابة لربه في كل خطاه، ووقار.

إن العدول الحرفي الذي أتينا ببعض شواهده في الكتاب العزيز لَيَقِفُنَا على لون جديد من ألوان الإعجاز اللغوي، والعلمي، ويُسْهِم في الكشف عن جمال، وجلال القرآن الكريم، وصلاحيته لكل زمتن ومكن، وأحقيته بالسيادة على كون الله كله.

د. جمال عبد العزيز أحمد

 جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية

[email protected]