الأربعاء 12 مارس 2025 م - 12 رمضان 1446 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : الأسرة رهان التربية الأخلاقية للأبناء والتعويل على التعليم والإعلام هروب من المسؤولية

في العمق : الأسرة رهان التربية الأخلاقية للأبناء والتعويل على التعليم والإعلام هروب من المسؤولية
الثلاثاء - 11 مارس 2025 01:02 م

د.رجب بن علي العويسي

280


في ظلِّ معطيات كونيَّة متسارعة، وتراكمات وتحدِّيات وطموحات وفُرص باتَ يعيشها ناشئة اليوم في ظلِّ تدخُّل الفضاءات المفتوحة وثورة المعلومات والتقنيَّة، والتَّحوُّلات الَّتي نتجتْ عَنْها على السُّلوك الاجتماعي والعلاقات المُجتمعيَّة والأُسريَّة، كما أنَّ تعدُّد وتنوُّع الفاعلين في ميدان التَّعليم والتَّنشئة والتَّأثير الَّتي لم يَعُد حكرًا على الأصدقاء والأقران وبيئة المنزل والأُسرة والأهل والجيران والَّتي يُمكِن فيها التَّحكم في قناعات النَّشء وتغييرها من خلال منْعِه من الالتقاء بأقرانه أو وضع الحدود والضَّوابط له في نَوعيَّة الرِّفقة الَّتي يخرج معها وموعد خروجه من البيت ووضع المواقيت والجداول الَّتي يُمكِن أن تحدِّدَ الإطار العامَّ لسُلوك النَّاشئة اليومي، الأمْر الَّذي قَدْ يصعُب تحقيقه في ظلِّ عالَم «السناب شات» و»اليوتيوب» و»التيك توك» والألعاب الإلكترونيَّة وغيرها ممَّا لم يخطر في بال أحَد، لِتصلَ هذه الأشياء بَيْنَ يدَي النَّاشئة، فتشكِّل حالة أخرى خارج إطار القوانين المنزليَّة وسيطرة الوالديَّة ومفهوم الضَّبط الاجتماعي وخارج إطار مسؤوليَّة المدرسة والمُعلِمِين، وتضع النَّشء أمام واقع جديد وأحداث مربكة في فضاء إلكتروني غير مأمون يتواصل فيه مع أشخاص غير معروفين أو حسابات وهميَّة ويتبادل مع الآخر أفكاره وقناعاته، بل قَدْ تصل إلى صوره وخصوصيَّته. في ظلِّ هذه المعطيات باتَ الحديث اليوم عن مسؤوليَّة الأُسرة أكثر تعقيدًا، رغم أنَّه أعظم أهميَّة وأولويَّة، إذ لن يتمكنَ وليُّ الأمْر أو الوالدَيْنِ وحدَهما من القيام بهذه المُهمَّة؛ لأنَّها فوق طاقتهما وفوق إمكاناتهما وفوق تصوُّرهما وفوق ثقتهما؛ إلَّا أنَّ ذلك كُلَّه لا يُبرِّر تراجعهما ولا يعطي المجال للتَّنازل عن دَوْرهما، ولا يفتح الطَّريق لهما للتَّساهل في مسؤوليَّة التَّربية رغم تعقُّد الأمْر وخروجه عن السَّيطرة في أحيان كثيرة، ويبقَى الأمْر والنَّهي، والنُّصح والإرشاد، والتَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصَّبر، والتَّصبُّر على ردود الأفعال السلبيَّة من الأبناء والتَّعامل بروحٍ مَرِنة وحازمة أحيانًا في إيصال الصُّورة لدَى الأبناء الخيار الَّذي يَجِبُ أن يسلَكَ، والمحطَّة الَّتي تصنع التَّغيير. فالاستمرار والجديَّة والتَّنويع في البدائل والتَّوَسُّع في الخيارات وإرغام النَّفْس على الاستجابة الوقائيَّة والتَّنبُّؤ بالقادم، وتكاتف الجهود الأُسريَّة والوالديَّة وتحفيز الذَّات والآخر؛ مرتكزات مُهمَّة تبقي على خيوط التَّواصُل الأُسري ممتدَّة، وجسور التَّرابط الاجتماعي مستمرَّة، ومنصَّات الالتقاء والمشتركات والحوار قائمة، وفرص التَّغيير والتَّصحيح والمراجعة والتَّأمُّل متوقعة، محطَّة يُعاد من خلالها إنتاج الواقع بطريقة تتناغم مع احتياجات النَّشء وتفكيره ورغباته، والقرب من احتياجاته وضمان وجود القدوة الَّتي تؤصِّل فيه حسَّ المسؤوليَّة ورقابة الذَّات وصحوة الضَّمير، ويقرأ خلاله في سُلوك الوالديَّة القدوة والمثال والنَّموذج.

إنَّ من بَيْنِ الأمور الَّتي باتَتْ تُشكِّل تحدِّيًا ذاتيًّا يَجِبُ على الوالدَيْنِ معالجته والوقوف على حيثيَّاته وتصحيح الصُّورة القاتمة الَّتي بدأتْ تظهر في التَّعاطي معه، هو شُهرة الظُّهور في منصَّات التَّواصل الاجتماعي، إذ كان على عهد قريب يُنظر إلى تنازل الوالديَّة ـ وبشكلٍ خاصٍّ الأُم أو المرأة ـ عن دَوْرها في التَّربية يرتبط بانخراط المرأة في العمل والوظيفة، وخروجها لساعاتٍ طويلة خارج البيت.. ولأنَّ السِّياسات والتَّشريعات والقوانين الوطنيَّة أدركتْ خطورة هذا الأمْر على مستقبل النَّاشئة العُمانيَّة، فقَدِ اتّخذتْ إجراءات لمعالجة التَّباين في العمل بَيْنَ القِطاع الحكومي والخاصِّ، وأوجد نقلة نوعيَّة في الإجازات الأسبوعيَّة، وعدد ساعات العمل، والإجازات السَّنويَّة، وفي ساعات الأمومة والرَّضاعة الَّتي مُنحت للأُمِّ المُرضع وغيرها، في سبيل الحدِّ من تأثير الوظيفة على تراجع دَوْر الوالدَيْنِ في عمليَّة التَّربية للأبناء، غير أنَّ دخول المرأة للتقنيَّة وفتح حسابات لها عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة وانشغالها بالتَّرويج والتَّسويق عَبْرَ الإنستجرام والسناب شات للتَّرفيه أو غيرها من الأمور، باتَ يُمثِّل اليوم الشَّبح المُظلم والأمل الرَّئيس في تراجع دَوْر الأُسرة في تربية الأبناء، بل أسْهمَتْ في زيادة التَّصدُّع العائلي وغياب الثِّقة والتَّغييرات في الحالة الزواجيَّة وانتشار الطَّلاق والخلع ودخول الأفكار السَّلبيَّة القائمة على تمجيد الحُريَّة المُطْلقة والاستقلاليَّة والخروج من جلباب الزوجيَّة والأبويَّة لِتشكِّلَ هذه الأحداث الشُّغل الشَّاغل للمرأة خاصَّةً والأُسرة عامَّةً، ما يعني أنَّ التَّعاطي مع الأمْر باتَ يُعِيدُ الحالة الأُسريَّة إلى المربَّع الأوَّل، فمكوثُ الوالدَيْنِ على المنصَّات الاجتماعيَّة ومجموعات «الواتس آب» وغيرها باتَ اليوم يأخذ وقت التَّربية والتَّنشئة، ما يؤكِّد على مسؤوليَّة الرِّعاية الوالديَّة واحتواء الأبناء واحتضانهم والحوار معهم والاستماع إِلَيْهم ومتابعة إنجازاتهم اليوميَّة والرَّقابة على سُلوكهم وتعزيز دوافعهم الإيجابيَّة.

من هنا كان على منظومة التَّنشئة الوالديَّة والتَّربية الأُسريَّة أن تنطلقَ في قراءة هذا الدَّوْر من خلال ثلاث محطَّات رئيسيَّة، تبدأ بالتَّلقين ثمَّ بالتَّمرين ثمَّ بالنَّموذج ومحاكاة الواقع أو التَّنفيذ، فالأولى يرتبط بإعادة تصحيح وإنتاج السُّلوك الخطابي للأُسرة، من خلال ما يتحدث به الوالدان والأُسرة من ألفاظ وكلمات وأحاديث ونصائح وتوجيهات وأساليب للحوار وطُرق إدارته بَيْنَهم، فعِندَما يكُونُ الحديث مع النَّشء وداخل بيت الأُسرة والمُجتمع والحوار اليومي مع الأبناء وبَيْنَهم قائمًا على حُسن الانتقاء وصقل الإلقاء وعِظم الكلمة وصِدق الجملة، لا يخالطه رفَث ولا فُسوق ولا سبٌّ أو شَتمٌ أو استهزاءٌ أو استحقارٌ أو كذِبٌ أو افتراءٌ أو بهتانٌ حتَّى ولو على سبيل الضَّحك والمزاح، فإنَّ ذلك سينعكس على ما يتلقَّاه الأبناء من صِدق القول ونُبله وعِظم الكَلِم وطيِّبه، وهكذا الأمْر مع الكَلِم غير الطيِّب ستكُونُ إسقاطاته على ذهن الطِّفل ولسانه وتفكيره وحواره مدوِّية وكفيلة بتدمير حياته، لِتصنعَ مِنْه شخصًا آخر كذابًا وحلافًا ومتملقًا أو غير ذلك.. أمَّا الأمْر الآخر فيرتبط بمرحلة التَّمرين الَّذي يشاهد فيه النَّاشئة فِعلَ الوالدَيْنِ والأقران والأصدقاء والمُجتمع والإخوة والأخوات، في طريقة تصرُّفاتهم وتعاملاتهم وأدائهم لمهامهم، والحفاظ على نظافة المكان واحترام الآخرين وطريقة كسبِ ودِّهم وتجاوز أخطائهم، كما هو نظافة اللِّسان من سيِّء الكلام وسَقمه، ولغَثه وغلَطه، لِتبرزَ الصُّورة الأخرى للتَّربية في صناعة القدوة والنَّموذج والمثال فيتربَّى النَّشء على حُسن الخلق وهو يشاهد بأُمِّ عَيْنَيْه كيف تتمثل الأخلاق والمبادئ والقِيَم في سُلوك الأُسرة والوالدَيْنِ، في اهتمامها بالأبناء، وسعيها نَحْوَ مساعدة أبنائهما، لِتؤسِّسَ تلك الممارسات النَّموذجيَّة مرحلةً متقدِّمة قائمة على صناعة التَّغيير من خلال واقع المشاهدة اليوميَّة؛ باعتبارها أفضل برهان على صِدق ما يحمله الوالدان من كريم الخصال وسُموِّ الطِّباع وينابيع القِيَم، ومنابع الفضائل وغراس المَحبَّة، أو بما يُقدِّمه الوالدان من فضائل البِر والمعروف والصَّدقة والدَّعم والمساندة. أمَّا الأمْر الثَّالث فيرتبط بتنفيذ العمل ومحاكاة الواقع، وعَبْرَ مشاركة الأبناء في رسم خريطة الممارسة اليوميَّة في اتِّخاذ القرار والمساهمة في المنزل، والتَّخطيط والتَّرتيب والتَّنظيم والمشورة وتعويد الأبناء على مجالسة الأخيار والاستماع إِلَيْهم وأدب الحوار وطريقة الحديث معهم، وكفاءة التَّعامل مع المواقف وحلِّ المُشْكلات وغيرها كثير ممَّا يتعرض له الفرد في حياته اليوميَّة من مواقف وظروف ومتغيِّرات، يستلهم مِنْها معاني الصَّبر والولاء والانتماء والأخوة، ويجسِّدها ممارسة عمليَّة تمشي على الأرض.

أخيرًا، فإنَّ الأُسرة رهان تربيَّة الأبناء والتَّعويل على التَّعليم والإعلام وانتظار ما ينتج عَنْهما؛ إنَّما هو هروب من المسؤوليَّة فإنَّ ما ينبغي التَّأكيد عَلَيْه هو أنَّ التَّربية الوالديَّة والأُسريَّة اليوم ضرورة لا يُمكِن التَّنازل عَنْها، بحجَّة الانشغال بمصالحها الشَّخصيَّة والاجتماعيَّة أو مسؤوليَّاتها في توفير احتياجات الأبناء، أو أنَّ الاعتماد على التقنيَّة وعاملات المنازل فرصة للخروج إلى الذَّات والاستماع بالحياة، والانسحاب من المواجهة بهدف الحدِّ من التَّصادمات والنِّزاعات والاختلافات داخل الأُسرة، والحدِّ من سلبيَّة السُّلوك المرتبط بارتفاع الصَّوت والنِّزاع والصُّراخ مع الأبناء بسبب سُوء تصرُّفاتهم، كما لا يبرِّر تخلِّي الوالدَيْنِ عن مسؤوليَّة التَّربية، ولا يُشرِّع حالة الانسحاب والإهمال بحجَّة أنَّ تربية الأبناء اليوم ليسَتْ كالأمس، وأنَّ الاعتماد على المنصَّات باتَ ضرورةً، لذلك نعتقد بأنَّ تكاتف جهود كُلِّ المؤسَّسات والقِطاعات، يَجِبُ أن يتَّجهَ نَحْوَ رفع كفاءة الأُسرة من خلال الدَّعم والمساندة والبرامج التَّعليميَّة والتَّدريبيَّة في إدارة التَّغيير والتَّربية الوالديَّة والتَّنشئة الإيمانيَّة؛ باعتبارها موجِّهات تنقل الأُسرة من مرحلة التَّذمُّر والانسحاب وسرد المُبرِّرات إلى مرحلة العُمق والمهنيَّة والتَّمكُّن من التَّربية القِيميَّة والتَّنشئة الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والسُّلوكيَّة للأبناء.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]