.. وهو دليلٌ على انعدام الرحمة من قلوبهم، واستبدال بالقلب حجرًا، أو حديدًا لا حسَّ له، ولا رحمةَ، ولا معنى لأن يقول أهل البلاغة هنا إن (في) بمعنى (على)، إذ لو كانت بمعنى (على) فلمَ يأت القرآن الكريم بـ(على)، وفضَّل (في)، والمسرح اللغوي كله هنا، والسياق كله يفوح كبرًا، وصلفًا، وغضبًا، وتهديدًا، ووعيدًا، وعجرفة، وخيلاء، وإظهارًا للبأس، واستعراضًا للقوة الفرعونية، وإذَاعَاتِها الشديدة المتمثلة في القسم، وواوه، ولامه، وفعله المضارع المؤكد وجوبًا بنون التوكيد الثقيلة، ومجيء (في) بمعنى (على) كما ذكر أهل البلاغة، والأفضل أن تبقى (في) بمعناها من الظرفية، وهو المعنى الذي تؤكده كلُّ ألفاظ الآية، وترشِّحه، وأن فرعون من القسوة بحيث إذا كشفْتَ عن صدره لم تجد قلبًا، وإنما تجد حجرًا، أو حديدًا، لا رأفة عنده، ولا رحمة في صدره، وأنه يريدهم جميعًا في جذع النخلة، والعجيب أن الجمع:(جذوع) هو جمع كثرة، كأنه قطَّع جذوعَ النخل جميعها لتستوعب كلَّ مَنْ آمن بموسى ـ عليه السلام ـ وهم كُثُرٌ، وهو يريدهم جميعًا مظروفين في تلك الجذوع من أثر الضرب، والضغط حتى أدخلهم، وخسف بهم، وعَجَنَهم عجْنا داخل الجذوع، فلا يراهم الناظرون، ولا يعاينهم الراؤون لدخولهم في بطون الجذوع، فلم يعودوا يُرَوْنَ.
كما أن لفظ (النخل) هو الآخر جمع كثرة، بوزن (فَعْل)، أي: أن النخل على كثرته، وجذوعَها على كثرتها قد أدخلهم فرعونُ فيها، بحيث استوعبتْهم كلَّهم، فصاروا مصلَّبين فيها، وظرفتْهم فيها؛ جراءَ قسوته في الضرب، والشدة حتى عُجِنُوا داخلها.
ذلك العدول من استعمال (على) إلى تفضيل (في) قد نقل إلينا صورة مكبَّرة مقرَّبة عن قسوته، وجبروته، وظلمه، وعدم رحمته، ورأفته بهم، فحقَّق العدول، والانحراف الحرفي معناه، ونهض للكشف عن حقيقته، ومرماه، فسبحان الله!، سبحان الله!.
وهناك نماذج أخرى كثيرة في كتاب الله لهذا العدول الحرفي، وما يتبعه من معنى سام، وحكمة راقية، تكشف عن دلالته العميقة، وحكمته البالغة، منها قوله تعالى:(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام ـ 11)، ونحو:(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل ـ 69)، ونحو:(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت ـ 20)، ونحو:(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (الروم ـ 42).
وكما نرى في كل تلك المواضع جاء حرف الجر(في) مع أن الفعل سار يتعدى بـ(على) نقول: (سرت على الطريق)، و(هم يسيرون على أقدامهم)، و(نحن نسير على عجلات اشتريناها قريبًا)، أما الفعل:(سار)، وارتباطه بالحرف (في) فله دلالات سياقية أخرى، غير السير العادي المادي، فالسير يكون فيه المرء أعلى من الطريق، وليس مظروفًا فيه، فما الحكمة وراء تعدي الفعل (سار ومشتقاته) بالحرف (في)؟!.
د. جمال عبد العزيز أحمد
جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية