المتابع للوضع الفلسطيني يدرك أنَّ ما يجري ليس مجرَّد سلسلة من الأحداث العشوائيَّة، أو التَّصعيدات العسكريَّة المؤقَّتة، بل هو امتداد لمشروع استعماري استيطاني، يَقُومُ على الإبادة التَّدريجيَّة والتَّطهير العِرقي المُمنهج، ففي قِطاع غزَّة تقطع دَولة الاحتلال الكهرباء والمياه، لِتخلقَ واقعًا معيشيًّا أشْبَه بالجحيم، وهي سياسة تهدف إلى إنهاك السكَّان ودفعهم نَحْوَ خياريْنِ لا ثالثَ لهما، إمَّا الموت البطيء أو الرَّحيل. ويأتي تحذير المقرِّرة الأُمميَّة فرانشيسكا ألبانيز من العدوان الصهيوني، وتأكيدها أنَّ هذه الإجراءات تُشكِّل (إنذارًا بإبادة جماعيَّة)، فإنَّه لا يأتي من فراغ، بل بناءً على معايير واضحة تُعرِّف الإبادة الجماعيَّة بأنَّها مَحْوٌ مُمنهج لمجموعة بَشَريَّة عَبْرَ فرض ظروف معيشيَّة قاتلة.
إنَّ العالَم الَّذي يدَّعي الالتزام بحقوق الإنسان لا يزال مترددًا في اتِّخاذ موقف حازم، ما يُشجِّع الاحتلال على المُضي قُدمًا في سياساته القمعيَّة دُونَ أيِّ خوفٍ من المساءلة، وإذا كانتْ غزَّة ترزح تحت ضغط الحصار الخانق والضَّربات العسكريَّة المتواصلة، فإنَّ الضفَّة الغربيَّة أيضًا تعيش على وقع عدوان يومي لا يقلُّ وحشيَّة، لكنَّه يتَّخذ أشكالًا أكثر دهاءً. فالحصار العسكري المفروض على طولكرم ومُخيَّم نور شمس منذُ أسابيع ليس مجرَّد إجراء أمني كما تدَّعي دَولة الاحتلال، بل هو استراتيجيَّة تهدف إلى تفريغ هذه المناطق من سكَّانها عَبْرَ القمع الممنهج والتَّهجير القسري، فالقوَّات الصهيونيَّة لا تكتفي باعتقال الشبَّان وتعذيبهم، بل تستخدم أدوات أكثر شموليَّة مثل تدمير البنية الأساسيَّة، فهذه ليسَتْ حملة عسكريَّة مؤقَّتة، بل جزء من رؤية استراتيجيَّة تهدف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السكَّانيَّة للضفَّة لصالح مشروع استيطاني لا يتوقف، خصوصًا عِندَما نرَى أنَّ المستوطنين يؤدون دَوْرًا تكميليًّا في تنفيذ هذا المُخطَّط عَبْرَ الاقتحامات المتكررة، مِثلما يحدُث في عرب المليحات، حيثُ يتمُّ تهديد السكَّان يوميًّا في محاولة لإجبارهم على الرَّحيل.
وفي القدس تتجلَّى واحدة من أخطر مراحل المشروع الصهيوني، حيثُ لا تقتصر الاعتداءات على البَشَر فقط، بل تمتدُّ إلى الهُوِيَّة والتَّاريخ والمقدَّسات، فاقتحام المسجد الأقصى بشكلٍ متكرر، كما حدَث مؤخرًا في المُصلَّى القبلي، هو محاولة لفرض أمْر واقع جديد، حيثُ تسعَى دَولة الاحتلال إلى تقويض الوجود الإسلامي والمسيحي في المدينة وتحويلها إلى مساحة يهوديَّة خالصة، وهذا يتزامن مع سياسات تضييق اقتصادي واجتماعي، حيثُ يتمُّ استهداف المقدسيِّين بمزيدٍ من الضَّرائب، وهدم المنازل، وسَحْب الهُوْيَّات، والحدُّ من تصاريح البناء، في محاولة لإجبارهم على الخروج التَّدريجي من المدينة.. هذه السِّياسة لا تختلف عن نهج الاستيطان العسكري في الضفَّة، لكنَّها تأخذ طابعًا أكثر رمزيَّة؛ لأنَّها تستهدف قلْبَ القضيَّة الفلسطينيَّة والبُعد الرُّوحي لها، في المقابل يظلُّ ردُّ الفعل العربي والدّولي قاصرًا، مقتصرًا على بيانات الإدانة الَّتي لا توقف الجرَّافات الصهيونيَّة عن هدم البيوت.
الأخطر من ذلك أنَّ المشروع الصهيوني لا يكتفي بممارساته الميدانيَّة، بل يعمل على تأصيل هذه السِّياسات من خلال تحركات قانونيَّة تهدف إلى إضفاء شرعيَّة على الاحتلال وتوسيعه، فتقديم المتطرِّف إيتمار بن جفير مشروع قانون لإلغاء اتفاقيَّات أوسلو والخليل وواي ريفر، يعكس بوضوح أنَّ الكيان الصهيوني لم يكُنْ يومًا جادًّا في عمليَّة السَّلام، بل كان يَعُدُّ هذه الاتفاقيَّات مجرَّد مرحلة مؤقَّتة حتَّى تتمكنَ من فرض واقع جديد على الأرض، فإذا تمَّ إقرار هذا القانون، فذلك يعني إلغاء أيِّ التزام صهيوني بالاتفاقيَّات السَّابقة، وإعادة السَّيطرة الكاملة على المناطق الَّتي تديرها السُّلطة الفلسطينيَّة، وهو ما يُمهِّد لموجة جديدة من الضمِّ والاستيطان، ورُبَّما تصعيد أكبر في القمع ضدَّ الفلسطينيِّين، فهذه الخطوة لا يُمكِن فصْلُها عن الدَّعم السِّياسي والعسكري الَّذي تتلقَّاه دَولة الاحتلال من الغرب، حيثُ يتمُّ تمكينها من انتهاك القوانين الدّوليَّة دُونَ خوف من العقاب. في ظلِّ هذا المشهد، يبدو واضحًا أنَّ الاحتلال لا ينفِّذ سياساته بشكلٍ عشوائي، بل وفقَ استراتيجيَّة مدروسة تجمع بَيْنَ الأدوات العسكريَّة والقانونيَّة والاقتصاديَّة لفرض أمْرٍ واقع جديد، بَيْنَما يواجِه الفلسطينيون هذا المُخطَّط بقدرة هائلة على الصُّمود، رغم قلَّة الإمكانات وغياب الدَّعم الدّولي الفعلي لقضيَّتهم.