أيها الصائمون.. ومع معركة بدر الفاصلة بين الحق والباطل، حيث وقف بنا الحديث أمس عندما استشار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه في الخروج، (فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شاور حِين بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: إِيَّانَا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبِحَارَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ النَّاسَ، قَالَ: فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمئِذٍ ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر، وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى تَقَدَّمَ الْعِيرَ حَذِرًا حَتَّى وَرَدَ الْمَاءَ، فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ عَنِ الطَّرِيقِ فَسَاحَلَ بِهَا، وَتَرَكَ بَدْرًا بِيَسَارٍ، وَانْطَلَقَ حَتَّى أَسْرَعَ، وَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ نَجَّاهَا اللَّهُ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا، فنقيم عَلَيْهِ ثَلَاثًا فننحر الْجَزُور وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ وَنَسْقِيَ الْخَمْرَ وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا، فَامْضُوا، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي خَلْفَ الْعَقَنْقَلِ وَبَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ يَلْيَلُ، بَيْنَ بَدْرٍ وَبَيْنَ الْعَقَنْقَلِ الْكَثِيبِ الَّذِي خَلْفَهُ قُرَيْشٌ، وَالْقَلِيبُ بِبَدْرٍ فِي الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ يَلْيَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ).
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: (أَنهم ذكرُوا أَن الْحباب ابْن مُنْذر بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، فَامْضِ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حوضًا فنملأه مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ». وَبَعَثَ اللَّهُ السَّمَاءَ، وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا فَأَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابُهُ مِنْهَا مَاءٌ لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ السَّيْرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا مَاءٌ لَمْ يقدروا على أَن يرتحلوا مَعَه، وَفِي هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(إِذ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَة مِّنهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِّنَ ٱلسَّمَاءِ مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذهِبَ عَنكُم رِجزَ ٱلشَّيطَانِ وَلِيَربِطَ عَلَى قُلُوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقدَامَ) (الانفال ـ 11)، فَذَكَرَ أَنَّهُ طَهَّرَهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنَّهُ ثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ وَشَجَّعَ قُلُوبَهُمْ وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ تَخْذِيلَ الشَّيْطَانِ وتخويفه للنفوس ووسوسته الخواطر، وَهَذَا تَثْبِيتُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَأَنْزَلَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فِي قَوْلِهِ تعالى: (إِذ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَة مِّنهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِّنَ ٱلسَّمَاءِ مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذهِبَ عَنكُم رِجزَ ٱلشَّيطَانِ وَلِيَربِطَ عَلَى قُلُوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقدَامَ، إِذ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُم فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَأُلقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعبَ فَٱضرِبُواْ فَوقَ ٱلأَعنَاقِ وَٱضرِبُواْ مِنهُم كُلَّ بَنَان) (الانفال 11 ـ 12) ، وَبَاتَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ، وَيُكْثِرُ فِي سُجُودِهِ أَنْ يَقُولَ: «يَا حَيَّ يَا قَيُّومَ، اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تَحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرَكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ أَحِنْهُمُ الْغَدَاةَ»، وَقِيلَ: إِنَّهُ نَامَ فِي الْعَرِيشِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ، فَدَنَا الْقَوْمُ مِنْهُمْ فَجَعَلَ الصِّدِّيقُ يُوقِظُهُ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَنَوْا مِنَّا فَاسْتَيْقِظْ، وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُمْ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا، ( إِذ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَو أَرَاكَهُم كَثِيرا لَّفَشِلتُم وَلَتَنَازَعتُم فِي ٱلأَمرِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ) (الانفال ـ 43)، وَقَدْ صَفَّ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَصْحَابَهُ وعباهم أحسن تعبية، وَرَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُكْثِرُ الِابْتِهَالَ وَالتَّضَرُّعَ وَالدُّعَاءَ، وَيَقُولُ فِيمَا يَدْعُو بِهِ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الارض» وَجعل يَهْتِف بربه عزوجل وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزَ لِي مَا وَعَدْتِنِي، اللَّهُمَّ نَصْرَكَ»، ويَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى سَقَطَ الرِّدَاءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، هَذَا وَقَدْ تَوَاجَهَ الْفِئَتَانِ وَتَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ، وَحَضَرَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، وَاسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ، وَضَجَّ الصَّحَابَةُ بِصُنُوفِ الدُّعَاءِ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، سَامِعِ الدُّعَاءِ وَكَاشِفِ الْبَلَاءِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ الاسد المخزومي وكَانَ رجلًا شَرِسًا سَيِّئَ الْخُلُقِ، وَكَانَ أَوَّلَ شهيد مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ) (السيرة النبوية لابن كثير (2) من ص 354إلى ص380 باختصار شديد).
.. وللجديث بقية غدا ان شاء الله.
محمود عدلي الشريف