من المؤسف أنَّ قواعد القانون الّدولي قَدْ وضعَتْها الدوَل الكبرى بطريقة أو بأخرى، سواء كان ذلك عَبْرَ القوَّة الصُّلبة أو من خلال المؤسَّسات الدّوليَّة مِثل هيئة الأُمم المُتَّحدة والَّتي هي أصلًا امتداد لتلك القوَّة، ولكن بطُرق قانونيَّة. وليس بخافٍ على أحَد أنَّ تلك الدوَل الكبرى مِثل الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة وروسيا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ لها تعريفاتها الخاصَّة بالمُجتمع الدّولي والقانون الَّذي يحكم ذلك المُجتمع.
جميعنا يتذكر مصطلح (أميركا أوَّلًا) ومصطلح (مَن ليس معنا فهو ضدّنا)، حيثُ تعمل الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة على قولبة القانون الدّولي لِيتشكلَ بحسب المصالح الأميركيَّة فقط، وليس من المُهمِّ أن يؤخذَ في الاعتبار مصالح بقيَّة الدوَل حَوْلَ العالَم، حيثُ يَجِبُ أن تطبقَ قواعد القانون الدّولي إذا كانتْ تلك القواعد تتماشى والمصالح الأميركيَّة، في وقتٍ لا يُمكِن فيه للولايات المُتَّحدة الأميركيَّة أن تأخذَ بتلك القواعد المُلزمة إذا كانتْ تتعارض مع مصالحها.
لم تقتصرِ الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة في فترة الرَّئيس الأميركي دونالد ترامب (الفترة الأولى أو الثَّانية) على تهميش المعاهدات الدّوليَّة وقواعد القانون الدّولي أو التَّنصُّل من التزاماتها حيالها، بل أكَّدتْ على عدم رغبتها في الأخذ بتلك القواعد بشكلٍ صريح وعلني عَبْرَ الانسحاب من المؤسَّسات الَّتي انضمَّتْ إِلَيْها والمعاهدات الدّوليَّة الَّتي أقرَّتها في فترة الرُّؤساء السَّابقين، ما يدلُّ على عدم مصداقيَّة أو احترام لالتزاماتها الدّوليَّة القانونيَّة.
فمع أوَّل عام للرَّئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض ـ وعلى سبيل المثال لا الحصر ـ أعلن انسحاب الولايات المُتَّحدة من اتفاقيَّة باريس حَوْلَ المناخ لمعارضتها المصالح الاقتصاديَّة الأميركيَّة. فما هو معروف أنَّ الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة تُعَدُّ ثاني أكبر مصدر لتلك الانبعاثات بعد الصين، وكانتْ إدارة الرَّئيس السَّابق للولايات المُتَّحدة باراك أوباما قَدْ وقَّعتْ على الاتفاقيَّة في 2015، كما أعلن رسميًّا خروج بلاده من الاتِّفاق النَّووي مع إيران بتاريخ 8/5/2018م.
كما انسحبتِ الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة من العديد من المنظَّمات الدّوليَّة؛ لأنَّها لا تتوافق مع المصالح الأميركيَّة، من ضِمْن تلك المنظَّمات منظَّمة الأُمم المُتَّحدة للتَّربية والثَّقافة والعلوم (يونسكو)، كما تخلَّتِ الولايات المُتَّحدة عن عضويَّتها في مجلس حقوق الإنسان الدّولي التَّابع لمنظَّمة الأُمم المُتَّحدة وذلك نتيجة رفض الإدارة الأميركيَّة سياسات المنظَّمة تجاه «إسرائيل»، وكذلك وقف تمويل وكالة الأُمم المُتَّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيِّين «الأونروا».
كما أعلن مستشار الأمن القومي «جون بولتون» انسحاب واشنطن من البروتوكول الملحق باتفاقيَّة فيينا لحلِّ النِّزاعات بالطُّرق السِّلميَّة على خلفيَّة شروع فلسطين على رفع قضيَّة أمام محكمة العدلِ الدّوليَّة ضدَّ أميركا للحصول على فتوى قانونيَّة بعد مشروع قرار الرَّئيس ترامب بنقل السَّفارة الأميركيَّة من «تل أبيب» إلى القدس في 6/12/2017م.
لم يقتصرْ تفكيك الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة لمبادئ القانون الدّولي أو الثِّقة في النِّظام القانوني أو المُجتمع الدّولي على الانسحاب من المنظَّمات الدّوليَّة أو حتَّى التَّنصُّل من التزاماتها القانونيَّة، بل تعدَّتْها إلى التَّخلِّي عن حلفائها وأصدقائها ومَن تعهَّدتْ بدعمهم ومساندتهم كما هو حال أوكرانيا بشعار (لن نقفَ إلَّا مع الحلفاء الَّذين يدفعون فقط)، ونقلتْ قناة NBC News عن ثلاثة مسؤولين أميركيِّين حاليِّين وسابقين وعضو في الكونجرس قولهم: (يُفكر ترامب في إدخال تغييرات جذريَّة على مشاركة الولايات المُتَّحدة في النَّاتو).
بل والأسوأ من ذلك هو اعتبار بعض حلفاء الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة في عهد الرَّئيس ترامب أعداءها الحقيقيِّين، وكما يقول وزير الخارجيَّة الرُّوسي سيرجي لافروف إنَّه «عِندَما تعتقد الولايات المُتَّحدة أنّ شيئًا ما يناسبُ مصالحها، يُمكِنها أن تخونَ أولئك الَّذين كانتْ صديقةً معهم، والَّذين تعاونتْ معهم، والَّذين تبنَّوا مواقفها في جميع أنحاء العالَم» حيثُ ـ وبهدف تحقيق مصالحها ـ تَقُومُ الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة من الضَّغط على شركائها وأصدقائها للابتعاد والتَّخلِّي عن الانفتاح على الصِّين وروسيا، وإن كان ذلك يُحقِّق مصالح تلك الدوَل، حيثُ ترغب «الولايات المُتَّحدة من حلفائها أن ينسوا منافع استيراد الغاز من روسيا والبضائع من الصِّين، وأن يشتروا من الولايات المُتَّحدة الغاز المسيّل وبقيَّة الصَّادرات، وأن يُتوِّجوا كُلَّ ذلك بصفقات السِّلاح الأميركي».
كما تعمل إدارة الرَّئيس ترامب وفق سياسات الصَّدمة والرُّعب من جهة، ونَشْر الفوضى والتكسُّب من ورائها من جهة أخرى، ويُمكِن شرح وتمثيل ذلك على عدد من الأحداث والأمثلة الحاضرة مِثل تصريحات الرَّئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن تهجير سكَّان غزَّة، حيثُ خلَّفتْ تصريحات ترامب بشأن السَّيطرة على قِطاع غزَّة موجةً واسعة من الرُّدود المصدومة على المستوى العربي والدّولي، فماذا كانتْ ردود فعل الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة بعدها؟
يتضح أنَّ إدارة الرَّئيس الأميركي ترامب تهدف من قراراتها بالانسحاب أو التَّهديد بالانسحاب من الاتفاقيَّات الدّوليَّة بِدُونِ الحوار مع شركائها الدّوليِّين، بالإضافة إلى التَّمسُّك بسياسات الصَّدمة والرُّعب ونَشْر الفوضى حيال بعض القضايا الدّوليَّة إلى الحصول على أفضل المكاسب الممكنة عن طريق إعادة التَّفاوض حَوْلَ تلك الاتفاقيَّات والالتزامات بِدُونِ الاكتراث بنتائج ذلك على المُجتمع الدّولي واستقرار النِّظام العالَمي.
يُضاف إلى ذلك، فإنَّ إدارة الرَّئيس ترامب تسعى إلى محاولة إعادة صياغة التَّوجُّهات الأميركيَّة على الصَّعيدَيْنِ الدَّاخلي والخارجي على حدٍّ سواء، لتأثير تلك الالتزامات الدّوليَّة سلبيًّا وفقًا للإدارة الحاليَّة على المصلحة والأمن القومي الأميركي، وهو أمْر خطير للغاية، حيثُ ينظر إلى المصالح الدّوليَّة من منظور القوي المُهيمن، وليس من تجاه المصالح الدّوليَّة، وهو ما يؤكِّد أنَّ الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة تَسير على نهج سياسة نفي العالَم على الطَّريقة الأميركيَّة.
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
MSHD999 @