لا يكفي أنْ تمتلكَ دَولة موارد طبيعيَّة أو فوائض ماليَّة كَيْ تَضْمنَ ازدهارها على الصَّعيد الاقتصادي، بل تحتاج إلى إدارة حصيفة، ورؤية واضحة، وسياسات متوازنة تستطيع توظيف تلك الموارد بذكاء، وعُمان اليوم تُقدِّم نموذجًا حقيقيًّا على هذا النَّهج، حيثُ لم تكتفِ بالحفاظ على استقرارها الاقتصادي، بل نجحتْ في تحويل هذا الاستقرار إلى قوَّة ماليَّة تُعزِّز مكانتها في المنطقة والعالَم. ولعلَّ أبرزَ دليلٍ على ذلك هو ارتفاع الأُصول الأجنبيَّة في البنك المركزي العُماني إلى (7.068) مليار ريال عُماني بنهاية 2024، بزيادة (4.9%) عن العام السَّابق، فهذا الرَّقم ليس مجرَّد زيادة حسابيَّة، بل دليل على نجاح السِّياسات النَّقديَّة في تعزيز ثقة الأسواق الدّوليَّة واستقرار العملة الوطنيَّة، وضمان قدرة سلطنة عُمان على التَّعامل مع التَّقلُّبات الاقتصاديَّة العالَميَّة.
لم يأتِ هذا الإنجاز من فراغ، بل كان ثمرة استراتيجيَّة متكاملة لتنويعِ الأُصول وتقليل المخاطر، فالمُثير أنَّ هذه الزِّيادة لم تعتمدْ فقط على تدفُّقات نقديَّة مباشرة، بل جاءتْ من توزيعٍ ذكيٍّ لمُكوِّنات الاحتياطيَّات الأجنبيَّة، حيثُ شملتْ إيداعات بالعملات الأجنبيَّة، وأوراقًا ماليَّة، وحسابات لدَى صندوق النَّقد الدّولي، فضلًا عن قفزة هائلة في قِيمة السَّبائك الذَّهبيَّة بنسبةٍ تفوق (200%)، وهذا التَّنوُّع يعكسُ فكرًا اقتصاديًّا متقدِّمًا، حيثُ لا يقتصرُ الأمْرُ على تأمين النَّقدِ الأجنبي، بل يتمُّ بناء قاعدة ماليَّة قادرة على امتصاص الصَّدمات وحماية الاقتصاد العُماني من تقلُّبات الأسواق العالَميَّة.. ومع تسجيل البنوك التِّجاريَّة في السَّلطنة ارتفاعًا في أُصولها الأجنبيَّة بنسبة (9.2%) يتَّضح أنَّ هذه الاستراتيجيَّة ليسَتْ معزولةً عن القِطاع المصرفي، بل هي جزء من نهجٍ شامل لتعزيزِ قوَّةِ النِّظام المالي، ما ينعكسُ إيجابًا على تمويل المشاريع الوطنيَّة ودعم القِطاع الخاصِّ.
ومن هذا المنطلَق، يبرزُ تساؤل حَوْلَ كيفيَّة استثمار هذا النَّجاح لضمانِ نُموٍّ اقتصادي مستدام؟ فالحفاظ على احتياطيَّات أجنبيَّة قويَّة هو خطوةٌ مُهِمَّة، لكنَّه ليس غاية في حدِّ ذاتها، بل يَجِبُ أنْ تكُونَ ركيزةً لدفعِ عجَلةِ التَّنمية، وتعزيز الاستثمارات، وخلق فرص اقتصاديَّة جديدة. وهنا يبرزُ التَّحدِّي الأكبر الَّذي يواجِه الاقتصاد الوطني ـ كما هو الحال في العديد من الاقتصادات المعتمدة على النِّفط ـ وهو تنويع مصادر النَّقد الأجنبي. فارتفاع أسعار النِّفط قَدْ يوفِّر دفعة قويَّة للاحتياطيَّات، لكنَّه ليس ضمانةً دائمة، لذا وجَبَ تسريع الجهود في تعزيز الصَّادرات غير النِّفطيَّة، وزيادة تدفُّق الاستثمارات الأجنبيَّة المباشرة، وتطوير قِطاعات إنتاجيَّة تنافسيَّة مِثل السِّياحة، والتكنولوجيا، والصِّناعات التَّحويليَّة، فالهدف هو تحقيق اقتصاد أكثر مرونةً، قادر على توليد الثَّروة بِغَضِّ النَّظر عن تقلُّبات أسواق الطَّاقة.
إنَّ ما تشهدُه سلطنة عُمان اليوم ليس مجرَّد تحسُّن في المؤشِّرات الماليَّة، بل هو إثبات عملي على نجاح رؤيتها الاقتصاديَّة في الجمع بَيْنَ الاستقرار والنُّمو. فالاقتصاد القوي ليس هو الاقتصاد الَّذي يُحقِّق فائضًا ماليًّا فقط، بل هو ذلك الَّذي يعرف كيف يستخدم موارده بكفاءة، ويُوظِّف سياساته النَّقديَّة والماليَّة لِتَعزيزِ الإنتاجيَّة والتَّنافسيَّة. وإذا استمرَّتِ السَّلطنة على هذا المسار، فإنَّها لا تضع نَفْسَها فقط في مصافِّ الدوَل ذات الاقتصادات المستقرَّة، بل تصنع نموذجًا اقتصاديًّا يُحتذى به في المنطقة والعالَم، والرِّهان الحقيقي اليوم ليس فقط في الحفاظ على هذا الزَّخم، بل في تحويل هذه الإنجازات الماليَّة إلى قوَّة دافعة نَحْوَ تنميَّة مستدامة تجعل الاقتصاد العُماني أكثر قوَّةً وصلابة في مواجهةِ تحدِّيات المستقبل.