الثلاثاء 04 مارس 2025 م - 4 رمضان 1446 هـ
أخبار عاجلة

إنسان الوطن مسؤولية استخلاف ومهمة إعمار

إنسان الوطن مسؤولية استخلاف ومهمة إعمار
الاثنين - 03 مارس 2025 01:33 م

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

10


استخلف الله الإنسان في الأرض ووهبه من الملكات والقدرات ما يُمكِنه القيام بمسؤوليَّات الاستخلاف إعمارًا للأرض وحفاظًا عَلَيْها وما عَلَيْها. يَقُوم الوطن على مرتكزين أوَّلهما الأرض المكان وثانيهما قاطنه ومعمِّره الإنسان. يحيا الوطن ويقوى ويزدهر بأنسنة المكان وبانتماء الإنسان. ناقشنا في المقال السَّابق أنسنة المكان بجعله ملائمًا لمعيش الإنسان وممكنًا لسعيِه. وفي هذا المقال نناقش انتماء الإنسان وبتحمُّله مسؤوليَّات الاستخلاف. المكان هو جسد الوطن وحاضنه، وغالبًا ما يُعرف باِسْمِه، يتَّصف بخصائصه، أو يشتهر بمقدراته. غير أنَّ من يشكِّل ملامح الوطن ويُحييه ويرفع مكانته ويصونه هو إنسانه. فللإنسان قدرات وجدارات بها يشيّد كيان الوطن ويعمّر المكان. وقد سخَّر المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ للإنسان ما في الأرض وما فوقها وجعله خليفة فيها. قال تعالى «سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ?لسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ?لْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْه إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (سورة الجاثيَّة الآيَّة 13).

الإنسان هو الفاعل والمؤثِّر الأكبر على الأرض وما عَلَيْها. باستطاعته إحياؤها واستصلاحها لمنفعته ولخير الوطن ومن عَلَيْه. ويُمكِنه أيضًا إفسادها وإلحاق الضَّرر بها وجعلها بوارًا لا تصلح وطنًا. فقَدْ يتسبَّب في حدوث كثير من الظَّواهر والكوارث الطبيعيَّة المدمِّرة والَّتي تغيِّر ملامح الأمكنة تغييرًا كبيرًا فتُصبح غير صالحة لمعيشة الإنسان ذاته عوضًا عن غيره من الكائنات الأخرى. وما الاحتباس الحراري النَّاتج عن انبعاثات غازات ضارَّة مصدرها أنشطة الإنسان الصناعيَّة والمعيشيَّة وغيرها إلَّا مثالًا على ذلك. فقَدْ أخلَّ الاحتباس الحراري بنُظم المناخ وأضرَّ بالتَّوازن الأحيائي المُنظِّم للحياة على كوكب الأرض وقد يعرِّض كثيرًا من الأوطان وأمكنتها لمخاطر وجوديَّة. فقَدْ تختفي مناطق كثيرة غرقًا في البحر وأخرى تتصحَّر فتُصبح غير ملائمة لمعيش الإنسان ولا لسعيِه. وفي الجانب الآخر قَدْ يكُونُ تدخُّل الإنسان مُحييًا للأرض ومعمِّرًا لها فتتحوَّل من صحراء قاحلة إلى واحات تنبض بالحياة وذلك بتطوير نُظم توازن حيوي وبيئي تُمكِّن إحياء الأوطان وازدهارها من خلال أنسنتها وتقوية ارتباط قاطنيها بها. القُرى والحواضر العُمانيَّة القائمة على أنظمة الأفلاج هي أمثلة جليَّة لمفهوم وطرائق أنسنة المكان ومن خلال استصلاح الإنسان للأرض وإعمارها لِتكُونَ حاضنة وطن ومستقرًّا للإنسان وميدان سعي له.

إحياء الإنسان للوطن يتعدَّى أفعاله وتأثيره على الأرض استصلاحًا وإعمارًا لِيشملَ إيجاد وتجويد نُظم وأعراف وسنن تنظِّم نشاطاته ومؤكّدة مواءمتها للبيئة حَوْلَه وما تزخر به من كائنات، ونُظم حيويَّة، ومقدَّرات، وخصائص. هذه النُّظُم والأعراف والسُّنن النَّاتجة عن خبرات طويلة ومعرفة عميقة بالسُّنن الكونيَّة والدَّوْرات والظَّواهر المناخيَّة وبطبيعة وخصائص كوكب الأرض من يابسة وبحار تكُونُ في مجموعها منظومة الوطن بإنسانه وبمكانه. ومقابل ذلك شرَه الإنسان وتدافعه المُضر بالمكان وبمقدَّراته من خلال إيجاد ظروف واتِّباع سلوكيَّات تتجاهل الأعراف والسُّنن وتؤدي إلى تفكيك الرَّوابط وإضعاف النَّسيج الجامع بَيْنَ مُكوِّنات الوطن والَّذي تتطلب حقبًا زمنيَّة طويلة لتشكيله وتقويته. وقَدْ برز ذلك من خلال تغيُّرات سلوكيَّة لدَى الإنسان المعاصر ناشئة عن إفرازات المَدَنيَّة الحديثة وأساليب الحياة المعاصرة، حيثُ طغيان النَّزعة الفرديَّة على التَّآلف الجمعي واللَّهث المجنون وراء تكوين الثَّروات الماليَّة على حساب ترشيد استخدام الموارد المتاحة وعلى التَّشاركيَّة وتحقيق الاستدامة. مثال ذلك تغيُّر في تملك النَّاس للأراضي واستخداماتهم بقدر حاجاتهم للسُّكنى أو للزِّراعة ليتحوَّل إلى استحواذ ـ وبطرائق مختلفة ـ على أراضٍ شاسعة ومتعدِّدة وبما يفوق قدراتهم وإمكاناتهم لتعميرِها أو استصلاحها كوسيلة للإثراء. وكثير ما تترك تلك الأراضي فوق حاجة المستحوذ عَلَيْها بِدُونِ استخدام أو تعمير ويحرم غيرهم من ذوي الحاجة والقدرة من الاستفادة مِنْها وتعميرها. وقَدْ تكُونُ لها استخدامات مضرَّة ومفسِدة للأرض وللبيئة. ولا شكَّ أنَّ مِثل هذه التَّصرُّفات تؤدي إلى الإضرار بالوطن، وبمقدَّراته، وخصائصه، ومكتسباته. ومن التَّغيُّرات المقلقة استبدال أعراف وتقاليد وقِيَم مُجتمعيَّة أنتجتها وطوَّرتها خبرات وتجارب إنسان الوطن على مدَى حقب زمنيَّة طويلة بأخرى حديثة لم تنضجْ ولم يثبتْ صلاحها ومناسبتها لإحياء الوطن وازدهاره وثباته. كتجاهل اعتبارات إعمار الأرض واستخدامات الأراضي دعمًا لأنسنة المكان طلبًا للإثراء السَّريع والاقتصار على القِيَم الماليَّة للأراضي وتجاوز قِيَمها المعنويَّة والتَّنمويَّة والوطنيَّة.

كثير من تحوُّلات المكان أفرزتها المَدَنيَّة الحديثة بمعطياتها ووفرة مواردها من جانب، وبتأثير التَّطوُّر المتسارع للتقنيَّات على سلوكيَّات النَّاس من جانب آخر. فقَدْ أصبحتِ المساكن متباعدة تفصلها الطُّرقات الواسعة بَيْنَما أُبعدتِ المَرافق المعيشيَّة كالأسواق والمدارس والمساجد عن الأحياء السكنيَّة. ولذا ازداد الاعتماد على وسائل النَّقل فَقَلَّتْ أو انعدمتِ الحركة والمشي الصحِّي، وكذلك فرص التَّلاقي بَيْنَ النَّاس ممَّا عزَّز الانعزاليَّة وأضعف التَّشاركيَّة والتَّواصُل الإنساني المباشر والَّذي هو بِدَوْره ضرورة مُلحَّة لتقوية الانتماء الجمعي للوطن. فقَدْ أدرك الأوائل بخبراتهم المتراكمة أهميَّة تسخير الأمكنة ومقدَّراتها لمعيشة الإنسان ولخدمته ورفائه بَدنيًّا وذهنيًّا وروحيًّا ونَفْسيًّا فجعلوا ذلك متطلبات، واعتبارات تخطيط وإنشاء القُرى والحواضر. فالنَّاظر إلى تصميم كثير من القُرى والحواضر العُمانيَّة قَبل النَّهضة الحديثة يدرك مدَى ملاءمة كثير من الأمكنة لحياة الإنسان، وحركته ونُظمه الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، والمعيشيَّة، والثَّقافيَّة، والدِّينيَّة. فترى الحي الواحد مترابطًا ومتكاملًا بمرافقه المختلفة حيثُ يلتقي النَّاس ببعضهم في الطُّرقات ويرتادون المساجد والمجالس (السِّبل) والعرصات (الأسواق) مشيًا على الأقدام. وكثيرًا ما يتوسَّط الفلج الحي فيكُونُ مورد ماء جار متاحًا للجميع استخدامه بكفاءة عالية وبتشارك حميد. ومن علامات متانة الانتماء إلى الحواضر المكانيَّة في الأزمان الماضية شيوع نسبة كثير من العلماء والقادة لبلدانهم وليس لأسرهم وعائلاتهم. فالأئمَّة أبو سعيد الكدمي وأبو جعفر البسيوي والعقري والأزكوي وغيرهم اشتهروا عِندَ النَّاس بانتمائهم لبُلدانهم وليس لأسرهم وعائلاتهم المعروفة.

إنَّ الدَّعوة لإحياء الوطن بتقوية انتماء إنسانه إِلَيْه ليسَتْ دعوةً للعودة للعيش في الماضي ونبذ معطيات التَّقدُّم الحضري والمَدَني والتِّقني، بل بتعميق الوعي بأهميَّة أنسنة الأمكنة لتتلاءم مع بناء نسيج مُجتمع مترابط ومتعاون ومتكاتف يجعل كُلَّ فرد به قوي الانتماء للوطن وباذلًا كُلَّ جهد ممكن لصون الوطن والحفاظ على مقدَّراته وإنمائه ورُقيِّه. ويتطلب ذلك تحديث كثير من الأعراف والسُّنن للتَّوافق مع معطيات الحياة العصريَّة والمستقبليَّة. كان للسَّبلة العُمانيَّة في الماضي دَوْر بارز فكانتْ محضن تربيَّة وملتقى تشاور ومَجمع تلاقٍ وترحاب للضيوف. فهل للمجالس العامَّة والنَّوادي والمقاهي العصريَّة أن تكُونَ بديلًا للسَّبلة؟ أم أنَّها مجرَّد مَرافق للقاءات عابرة لا تخدم كثيرًا من غايات ووظائف السَّبلة؟

أُولِي تخطيط المُدُن والحواضر أهميَّة كبرى منذُ بداية عصر النَّهضة العُمانيَّة الحديثة وقد أنشئتْ مؤسَّسات متخصِّصة لذلك. غير أنَّ فلسفة تخطيط المُدُن لم تكُنْ بالمستوى المأمول وتجاهلتْ في كثير من الأحيان المعطيات والخبرات الوطنيَّة ممَّا أدَّى إلى إنشاء أحياء ومُدُن تزخر بالمباني والطُّرق الحديثة، غير أنَّها أغفلتْ متطلبات الأنسنة والتَّواصُل المُجتمعي والمعطيات المناخيَّة المحليَّة. وقَدْ أدركتْ مؤسَّسات الدَّولة المسؤولة مؤخرًا ذلك القصور في التَّخطيط الحضري فبدأتْ بإنشاء الأحياء السَّكنيَّة المتكاملة والمترابطة ومتوافقة مع متطلبات الأنسنة. ولدعم هذا التَّحوُّل المنشود في التَّخطيط الحضري فإنَّه يَجِبُ تطوير أعراف وسُنن تَقُومُ مقام الأعراف والسُّنن السَّابقة. من ذلك تشجيع وتسهيل إنشاء لجان أو مجالس أهليَّة للاهتمام بشؤون الأحياء السَّكنيَّة والحواضر ولتقوية الرَّوابط بَيْنَ قاطنيها. ثمَّ تُعطى مسؤوليَّة الاهتمام والعناية بهذه الأحياء لمجالسها أو لجانها وأن يقللَ تدخُّل المؤسَّسات الحكوميَّة والاعتماد عَلَيْها في إدارة شؤونها، فأهل مكَّة أدرَى بشعابها. وسيُمكِّن ذلك أهل الحي أو الحاضرة من تحمُّل المسؤوليَّات. إنَّ تمكين المواطن لأداء دَوْره والقيام بمسؤوليَّاته سيقوِّي ـ بلا شك ـ حسَّ المسؤوليَّة لدَيْه ويُنمِّي انتماءه وارتباطه بوطنه أرضه ومقدَّراتها، وإنسانه بأعرافه وحضارته.

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

مدير تنفيذي سابق بشركة تنمية نفط عمان

ورئيس سابق لجمعية المهندسين العمانية