لا تمرُّ الأيَّام في فلسطين كغيرها من بقاع الأرض، فكُلُّ يوم يحمل معه نكبةً جديدة، وجريمةً أخرى تُضاف إلى سجلِّ الاحتلال الصهيوني المُلطَّخ بالدِّماء، والأمْرُ سيَّان في كامل الأراضي الفلسطينيَّة. ففي الضفَّة الغربيَّة يستمرُّ الاحتلال في فرض سياسات تهويد ممنهجة، تهدف إلى ضمِّ الأراضي الفلسطينيَّة وتهجير أهْلِها، في محاولةٍ لتغييرِ معالِم الجغرافيا والديموجرافيا بالقوَّة، فمشروع (القدس الكبرى) الَّذي تناقشه حكومة الاحتلال ليس مجرَّد قرار إداري أو قانوني، بل هو استكمالٌ لخطَّة طويلة متكررة تهدف إلى القضاء على الهُوِيَّة الفلسطينيَّة في القدس وما حَوْلَها، عَبْرَ مَحْوِ القُرى والبَلدات وإحلالِ المستوطنين مكان السكَّان الأصليِّين.. هذه السِّياسة ليسَتْ جديدةً، بل هي استمرارٌ لمنهجٍ استيطاني قائمٍ على فكرة أنَّ الأرضَ يَجِبُ أن تُفرَّغَ من أصحابها الأصليِّين، لِيتمَّ تسليمُها لمستوطنين جُلبوا من مختلف أنحاء العالَم، دُونَ أيِّ رابطٍ حقيقي بهذه الأرض سوى أوهامٍ تاريخيَّة زائفة.
الفلسطينيون في الضفَّة الغربيَّة ليسوا مجرَّد أرقامٍ في مُخطَّطات الاحتلال، بل هُمْ أصحاب الحقِّ، الذين رغم كُلِّ الممارسات القمعيَّة، لم يتركوا أرضَهم ولم يتخلَّوا عن حقِّهم في العيش بكرامةٍ فوق تراب وطنهم. وفي غزَّة، الأمْرُ لا يختلف كثيرًا، لكنَّه يتَّخذ أشكالًا أكثر وحشيَّة، حيثُ يفرض الاحتلال حصارًا خانقًا يطول كُلَّ جوانب الحياة، فيجعل الطَّعام والدَّواء والماء والكهرباء وحتَّى الهواء رهينةً لمزاجِ السَّاسة في «تل أبيب»، وقرار الاحتلال الأخير بوقفِ إدخال المساعدات الإنسانيَّة وإغلاق المعابر، هو جريمة حرب بكُلِّ المقاييس، إذ يهدف إلى تجويع أكثر من مليونَي إنسان، يستخدمهم الاحتلال كورقة ضغطٍ لتحقيقِ أهدافه السِّياسيَّة، فالمشهد في غزَّة مأساوي إلى حدٍّ لا يُمكِن تصوُّره؛ المستشفيات بلا أدوية، الأطفال يعانون من سُوء التَّغذية، والعائلات تبحثُ عن لُقمة العيش وسط دمارٍ شامل خلَّفتْه آلةُ الحرب الصهيونيَّة.. ورغم كُلِّ هذا، لا يتحرَّك المُجتمع الدّولي إلَّا ببعض البيانات الباهتة، الَّتي تُعبِّر عن (القلقِ العميق)، لكنَّها لا تُترجَم إلى أيِّ فعلٍ حقيقي يوقِفُ هذه الجرائم.
الصَّمْتُ الدّولي هو الجريمة الكبرى الَّتي تجعل كُلَّ ما يحدُث ممكنًا، فهو الَّذي يُعطي الاحتلال الصهيوني الضَّوء الأخضر للاستمرار في سياساته القمعيَّة دُونَ خوفٍ من أيِّ مساءلة، أو حسابٍ على أيٍّ من تلك الجرائم. فالعالَم، الَّذي يدَّعي الدِّفاع عن حقوق الإنسان، يغضُّ الطَّرف عن المجازر اليوميَّة الَّتي تُرتكب بحقِّ الفلسطينيِّين، وكأنَّ أرواحَهم لا قِيمة لها في حسابات المصالح السِّياسيَّة، والمؤسَّسات الدّوليَّة، الَّتي من المفترض أنْ تكُونَ حاميةً للضُّعفاء، تحوَّلتْ إلى كيانات عاجزة، تُصدر القرارات والبيانات دُونَ أيِّ أثَرٍ حقيقي على الأرض، خصوصًا في ظلِّ الدَّعم الأميركي غير المحدود لِدَولة الاحتلال المارقة، والدَّعم الأوروبي الَّذي يتَّخذ شكلَ الصَّمتِ والتَّواطُؤ، يجعل الاحتلال يَمضي قُدُمًا في مُخطَّطاته دُونَ أنْ يلتفتَ إلى أيِّ اعتبارات قانونيَّة أو إنسانيَّة.
لكن رغم كُلِّ تلك القتامة، يبقَى في آخر النَّفق ضوء، وتبقَى الحقيقة الوحيدة الَّتي لم يستطعِ الاحتلال أنْ يغيِّرَها، وهي صمود الفلسطينيِّين في وَجْه كُلِّ هذه الجرائم، هذا الصُّمود ليس مجرَّد شعار، بل هو واقعٌ يومي يعيشه الفلسطينيون، الَّذين يرفضون الخضوع رغم الحصار، ويواصلون الحياة رغم الموت المتربِّص بِهم في كُلِّ زاوية، فالطِّفل الفلسطيني يذهب إلى مدرسته رغم القصف، والمزارع يحرثُ أرضَه رغم المُصادَرة، والصُّحفي يوثِّق الجرائم رغم استهدافه، ففي فلسطين لا يُهزم الإنسان، حتَّى لو سقطَ شهيدًا؛ لأنَّ روحَه تظلُّ حيَّة في قلوب الأحياء، تُلهِمهم مواصلة الطَّريق حتَّى يتحققَ الحلم ويصبحَ واقعًا، وحتَّى تَعُودَ الأرض لأصحابِها الحقيقيِّين، وتتطهَّرَ من رجسِ هذا الاحتلال البغيض.