المشهد الصَّادم للرَّئيس الأميركي وهو يوبِّخ نظيره الأوكراني، خلال استقباله في البيت الأبيض، يُمثِّل سابقة خطيرة في العلاقات بَيْنَ الدوَل، وطريقة غير معهودة للتَّعامل بَيْنَ رؤساء الدوَل، مواجهة خرجتْ عن الأعراف الدبلوماسيَّة المتعارف عَلَيْها، انتهتْ بإلغاء اتِّفاق المعادن بَيْنَ البلديْنِ، وطلب المغادرة للرَّئيس الأوكراني ووفد بلاده المُرافق، دُونَ أن يتناولوا واجب الضِّيافة، انصرفوا وعربات الطَّعام تفوح مِنْها رائحة الشِّواء تصطف على باب القاعة المجاورة للمكتب البيضاوي.
خلال شَهْرِه الأوَّل في فترته الثَّانية، الَّتي فاز فيها باكتساح أمام منافسته الديمقراطيَّة، قلَبَ الرَّئيس الأميركي السِّياسة الأميركيَّة رأسًا على عقب، وتحرَّك بشهيَّة وطاقة مفرطة، لإعادة صياغة دَوْر بلاده في العالَم، بدا ذلك سافرًا في موقفه تجاه الحرب بَيْنَ روسيا وأوكرانيا، حيثُ راح يحتضن روسيا ويُعِيد فتح السّفارات في موسكو وواشنطن، وينتقد أوكرانيا، متهمًا رئيسها بالتَّسبُّب في الحرب باستفزازه الدُّبَّ الرُّوسي، ويهين الحلفاء الأوروبيِّين، الَّذين اعتمدوا لعقودٍ طويلة على الولايات المُتَّحدة ماديًّا وعسكريًّا.
يخشى الأوروبيون أن تشجِّعَ سياسات ترامب الصين على تَبنِّي سياسات توسُّعيَّة تجاه تايوان والدوَل المُطلَّة على بحر الصين الجنوبي، مُستغلَّةً رفض الرَّئيس الأميركي للنِّظام الدّولي الَّذي نشأ بعد الحرب العالَميَّة الثَّانية، الَّذي يمنع الاعتداءات بَيْنَ الدوَل، ويتبنَّى ترامب عقيدة قديمة تسمح للدوَل الَّتي تمتلك قوَّة عسكريَّة أن تفرضَ مجالات نفوذ إقليميَّة واسعة، وتهيمن على جيرانها، في إعادة لعقارب السَّاعة إلى الوراء في تاريخ العالَم، حين كانتِ الدوَل ذات الجيوش الأكبر أداة لبناء الإمبراطوريَّات الَّتي توسّع أراضيها بالإكراه، وتفرض الجزية على الدوَل الأضعف.
عن ذلك يقول معهد كارينيجي للسَّلام: إنَّ هذا النَّهج السِّياسي الأميركي التَّقليدي القديم للتَّأثير في واقع الأمْر على المناطق الجغرافيَّة، يتجلَّى في علاقة الإعجاب والانبهار بَيْنَ الرَّئيس ترامب ونظيره الرُّوسي فيلاديمير بوتين، هذا التَّوَجُّه الَّذي فاجأ وصدَم حلفاء أميركا، الَّذين يرَون اندفاع ترامب للتَّوصُّل إلى اتِّفاق مع روسيا بشأن أوكرانيا، ورفضه الواضح لِدَوْر واشنطن الطَّويل الأمد في الحدِّ من قوَّة الكرملين، الأمْر الَّذي يقلِّص من نفوذ الولايات المُتَّحدة في العالَم بدلًا من توسيعه.
وقال رئيس جهاز الاستخبارات البريطاني السَّابق، إليكس يانجر: نحن في عصر جديد، حيثُ لن تحددَ العلاقات الدّوليَّة بشكلٍ عام من خلال القواعد والمؤسَّسات المُتعدِّدة الأطراف، بل ستُحدَّد من خلال الزُّعماء الأقوياء والصَّفقات، هذه هي عقليَّة ترامب، وبالتَّأكيد عقليَّة بوتين، والرَّئيس الصيني شي جين بينج، ولا أعتقد أنَّه يُمكِن العودة إلى ما كنَّا عَلَيْه من قَبل.
الإدارات الأميركيَّة السَّابقة في عهد أوباما وبايدن، سعَتْ لإعادة تقييم الدَّوْر الأميركي في العالَم، خصوصًا بعد تجاوزات جورج دبليو بوش الَّذي قاد أميركا إلى حربَيْنِ في أفغانستان والعراق، بعد هجمات الـ(11) من سبتمبر 2001، وعمل الرَّئيس باراك أوباما على إعادة ضبط العلاقات مع بوتين، بعد بدء روسيا عمليَّتها العسكريَّة في جورجيا، وكان قرار الرَّئيس جو بايدن الانسحاب من أفغانستان بوتيرة سريعة أربكتِ الحلفاء، وفرضتْ عَلَيْهم البحث عن وسائل جديدة للتَّعامل مع الانسحاب العشوائي. يُقدِّم ترامب رؤى متناقضة لسياسته الخارجيَّة، فقَدِ اقترح أن تحكمَ أميركا العالَم من خلال قوَّتها الاقتصاديَّة، واستخدامها كهراوة من خلال التَّعريفات الجمركيَّة، وفي نفس الوقت عَبَّرَ عن مواقف أكثر انعزاليَّة، من خلال الشِّعار الَّذي رفعَه في حملته الانتخابيَّة «أميركا أوَّلًا»، لكنَّه يقلِّص بشكلٍ نشط البصمة الأميركيَّة العالَميَّة، بالتَّنازل عن التَّأثير في المنافسين، طالما ابتعدوا عن الحدود الأميركيَّة، فسبَق له القول: الحرب في أوكرانيا لا تؤثِّر فينا بشكلٍ كبير، ويفصلنا عَنْها محيط كبير وجميل، في رفضٍ صريح لعقيدةٍ أميركيَّة راسخة، استمرَّتْ طوال المائة سنة الماضية، تَعدُّ المصالح الأميركيَّة مُهدَّدة عِندَما يقرِّر منافس عالَمي القيام بعمليَّة غزو إقليميَّة.
محمد عبد الصادق
كاتب صحفي مصري