يبدو أنَّ دونالد ترامب لم يكتفِ بإثارة الجدل سياسيًّا كما تحدَّثنا سابقًا، فقرَّر أن ينقلَ مغامراته إلى الاقتصاد أيضًا، ليجعلَ العالَم كُلَّه ساحة لتجاربه الماليَّة العشوائيَّة. فالرَّجُل الَّذي يعتقد أنَّه أعظم تاجر في التَّاريخ يتعامل مع الأسواق وكأنَّها لُعبة (بنك الحظ) الَّتي كنَّا نلعبها في المصايف ونحن صغار، فيفرض الضَّرائب والرُّسوم في كُلِّ اتِّجاه تحت شعار (حماية الاقتصاد الأميركي)، بَيْنَما الواقع أنَّ هذه السِّياسات تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وانخفاض القدرة الشرائيَّة، وزيادة معدَّلات الفقر في كُلِّ مكان، حتَّى داخل الولايات المُتَّحدة نَفْسها.. ببساطة ترامب لا يُدير الاقتصاد، بل يراهن عَلَيْه كما يفعل المقامرون في كازينوهات لاس فيجاس، متجاهلًا أنَّ الاقتصاد العالَمي ليس مجرَّد طاولة قمار، بل منظومة مترابطة، وأيُّ تصرُّف متهوِّر يُمكِن أن يؤدِّيَ إلى أزمة ماليَّة تضرب الجميع بلا استثناء. وفي زاوية أُخرى من هذا المشهد الاقتصادي الفوضوي، يظهر إيلون ماسك، ذلك العبقري الَّذي يصنع تقنيَّات المستقبل دُونَ أن يفكرَ في تداعياتها على الحاضر، فهو يحلم بعالَم تُسيطر فيه الرُّوبوتات والذَّكاء الاصطناعي، وكأنَّ البَشَر أصبحوا عبئًا يَجِبُ التَّخلُّص مِنْه، فكُلُّ اختراع جديد يقدِّمه، سواء كانت سيَّارة ذاتيَّة القيادة أو روبوتًا يعمل بذكاء غير مسبوق، يعني أنَّ آلاف الوظائف ستختفي. صحيح أنَّ التكنولوجيا ضروريَّة للتَّقدُّم، لكن عِندَما يكُونُ التَّطوُّر على حساب البَشَر، فإنَّ النَّتيجة ستكُونُ كارثيَّة، فكُلُّ وظيفة يتمُّ الاستغناء عَنْها لصالح الذَّكاء الاصطناعي تعني شخصًا جديدًا ينضمُّ إلى طوابير العاطلين عن العمل، ليس في أميركا فقط، بل في كُلِّ دوَل العالَم، الَّتي ستُواجه تحدِّيات اجتماعيَّة واقتصاديَّة ضخمة. فالعولمة الَّتي طالما تغنَّى بها الغرب تجعل تأثير هذه الأزمة يتوسَّع بسرعة، وكأنَّ العالَم كُلَّه يدفع ثَمَنَ مغامرات ماسك التقنيَّة، الَّتي لا تهدف إلَّا إلى رفعِ قِيمة أسْهُم شركاته، دُونَ أيِّ اعتبار للفَوْضَى الَّتي يتركها خلْفَه. لكنَّ القنبلةَ الحقيقيَّة جاءتْ مع قرار ترامب بدمج خمس عملات رقميَّة في النِّظام المالي الأميركي، ففي خطوة لا يُمكِن أن يطلقَ عَلَيْها إلَّا مقامرة القرن، حيثُ يتمُّ ربط الاقتصاد الأميركي، الَّذي يسيطر على نصف الاحتياطي المالي العالمي، بأُصول متقلِّبة لا تخضع لأيِّ رقابة حكوميَّة، فقَدْ يراها البعض خطوة نَحْوَ (مستقبل مالي متطوِّر)، لكنَّها في الواقع مقامرة خطيرة يُمكِن أن تؤدِّيَ إلى انهيار اقتصادي عالَمي، فكيف يُمكِن لدَولة بحجمِ أميركا أن تعتمدَ على عملات قَدْ تنهار قِيمتها في لحظة بسبب تغريدة من ماسك أو إشاعة على الإنترنت؟ والأخطر هنا أنَّ هذه الخطوة قَدْ تدمِّر الثِّقة في العملات التَّقليديَّة مِثل الدولار واليورو، ما يدفع المستثمِرِين إلى تحويل أموالهم إلى العملات المشفَّرة، وهو ما قَدْ يؤدي إلى زلزال اقتصادي يهدِّد استقرار الأسواق العالَميَّة. هذا بالإضافة إلى أنَّ العملات الرَّقميَّة، الَّتي نشأتْ أساسًا خارج إطار الأنظمة المصرفيَّة التَّقليديَّة، تُعَدُّ بيئة مثاليَّة لغسيل الأموال وتمويل الأنشطة غير المشروعة، كما يؤكِّد الخبراء، فمع دخولها في الاحتياطي الأميركي، فنحن على أعتاب عصر جديد من الجرائم الماليَّة العابرة للحدود. إنَّ أقربَ تشبيهٍ للوضع الَّذي نعيشه، هو أنَّنا أشْبَه بركَّاب في حافلة يَقُودُها شخص متهوِّر بسرعة جنونيَّة، بَيْنَما يجلس بجواره مخترع عبقري مجنون، يعبث بأزرار التَّحكُّم لاختبار نظام القيادة الذَّاتيَّة، والنَّتيجة الطَّبيعيَّة لذلك العَتَه هي أنَّنا جميعًا في طريقنا إلى المجهول، ولكن بتكنولوجيا متطوِّرة جدًّا! فالأسواق ستتأرجح، والوظائف ستختفي، والعملات التَّقليديَّة ستدخل في غيبوبة، بَيْنَما المقامرون في البيت الأبيض ووادي السيليكُونُ يتراهنون على مَن سيسقط أوَّلًا، رُبَّما حان الوقت لِتعلُّم البرمجة أو تعدين البيتكوين، وإذا فشلتُ في ذلك (والأرجح أنَّني سأفعلُ؛ لأنَّ بعد ما شاب وَدّوه الكُتَّاب)، فقَدْ أبدأ في البحث عن كوكب آخر للحياة؛ لأنَّ قيادة، الأرض كما يبدو، أصبحتْ أقرب لـ(عنبر للعقلاء في فيلم إسماعيل ياسين)، فَهُم يَقودُونَنا بسرعة نَحْوَ الهاوية بلا فرامل!
إبراهيم بدوي