عِندَما نتحدَّث عن الاستثمار فإنَّنا لا نتحدَّث فقط عن أرقام تُسجَّل في تقارير اقتصاديَّة، بل عن مستقبل يُبنى، وأمَلٍ يتجدَّد، ودَولة ترسم ملامح نهضتها المُتجدِّدة بثبات.. ففي سلطنة عُمان حيثُ التَّاريخ يلتقي بالمستقبل، تتواصل الرِّحلة نَحْوَ التَّحوُّل الاقتصادي، مستفيدةً من موقعها الاستراتيجي، وثرائها الطَّبيعي، ورؤيتها الطَّموحة الَّتي تُسابق الزَّمن. فالنَّجاح الَّذي تحقَّق خلال السَّنوات الأخيرة لم يكُنْ محضَ مصادفة، بل كان نتاج إرادة سياسيَّة واضحة، وإصلاحات اقتصاديَّة عميقة، وجهود دؤوبة لخلقِ بيئةٍ استثماريَّة تنافسيَّة، فحينما تتجاوز التَّدفُّقات الاستثماريَّة الأجنبيَّة (26.677) مليار ريال عُماني خلال خمس سنوات، فهذا لا يعني فقط تدفُّق رؤوس الأموال، بل يعني تدفُّق الفرص، وتدفُّق الابتكار، وتدفُّق المستقبل نَفْسِه، والأهمُّ من ذلك أنَّه يعكسُ ثقةَ المستثمِرِين العالَميِّين في هذه الأرض الَّتي لا تزال تثبتُ أنَّها قادرة على التَّطوُّر دُونَ أنْ تفقدَ هُوِيَّتها.
إنَّ الارتفاعَ الملحوظَ في الاستثماراتِ الأجنبيَّة في عُمان لم يكُنْ مجرَّدَ نتيجةٍ طبيعيَّة لِنُموِّ الاقتصاد، بل كان انعكاسًا لاستراتيجيَّةٍ مدروسة تستهدفُ تنويعَ مصادرِ الدَّخل، وتقليلَ الاعتمادِ على النِّفط، واستثمارَ المواردِ بذكاءٍ في قِطاعاتٍ واعدة. فقَدْ تمكَّنتِ السَّلطنة من استقطابِ استثماراتٍ ضخمة في الصِّناعاتِ التَّحويليَّة والطَّاقةِ المُتجدِّدة واللوجستيَّاتِ والسِّياحةِ والتكنولوجيا، وهي القِطاعات الَّتي ستُشكِّل عمادَ المستقبلِ الاقتصادي. واللافتْ أنَّ هذه الطَّفرةَ الاستثماريَّة لم تأتِ فقط من دوَلٍ مجاورة، بل من قوى اقتصاديَّةٍ عالَميَّة مِثل المملكةِ المُتَّحدة، والولايات المُتَّحدة، والصِّين، والهند، والإمارات، وهو ما يدلُّ على أنَّ الرُّؤيةَ الاقتصاديَّةَ العُمانيَّة أصبحتْ قادرةً على جذبِ اهتمامِ المستثمِرِين من مختلفِ أنحاءِ العالَم، فهذه الاستثماراتُ ليسَتْ مجرَّدَ عقودٍ وأرقام، بل هي مصانعُ تُبنى، وموانئُ تتطوَّر، وابتكاراتٌ تُولَد، ووظائفُ تُخلَق، ما يجعلُ التَّنميةَ الاقتصاديَّة تتجاوزُ حدودَ الاقتصادِ نَفْسِه لِتلامسَ حياةَ الأفرادِ وتُعِيدَ تشكيلَ المُجتمعِ.
لكنَّ النَّجاحَ الحقيقي لا يُقاسُ فقط بزيادةِ الاستثماراتِ، بل بقدرةِ الاقتصادِ على تحقيقِ قِيمةٍ مُضافة مِنْها، وخلقِ بيئةِ عملٍ مُحفِّزة، وتعزيزِ تنافسيَّةِ السُّوقِ المحلِّي، وهنا تبرزُ أهميَّةُ الإصلاحاتِ الَّتي نفَّذتْها السَّلطنةُ، مِثل إطلاقِ منصَّةِ (استثمِر في عُمان)، وإنشاءِ محكمةِ الاستثمارِ والتِّجارة، وتحديثِ القوانينِ لِتَسهيلِ إجراءاتِ تأسيسِ الشَّركات، ما جعلَ بيئةَ الاستثمارِ أكثرَ جاذبيَّةً وشفافيَّة.. ومع ذلك فإنَّ الطَّريقَ ليس خاليًا من التَّحدِّيات، فالتَّنافسيَّة الإقليميَّة تزداد، والبيروقراطيَّة ـ رغمَ تحسُّنِها ـ لا تزالُ تحتاجُ إلى مزيدٍ من التَّطوير، كما أنَّ تعزيزَ البنيةِ الأساسيَّة الرَّقميَّة أصبحَ ضرورةً مُلحَّةً في عالَمٍ يعتمدُ على السُّرعة والابتكار، فكُلُّ هذه العواملِ تجعلُ استمرارَ الإصلاحاتِ الاقتصاديَّة ليس خيارًا، بل ضرورةٌ لضمانِ بقاءِ السَّلطنة ضِمْنَ قائمةِ الدوَلِ الأكثرِ جذبًا للاستثمار.
إنَّ ما يجعلُ التَّجربةَ العُمانيَّة مختلفةً ليس فقط الأرقامُ والإصلاحات، بل روحُ النَّهضةِ المُتجدِّدة الَّتي تسري في كُلِّ مشروعٍ جديد، والإيمانُ بأنَّ الاستثمارَ ليس مجرَّدَ وسيلةٍ للنُّموِّ، بل أداةٌ لِصُنعِ المستقبل. فالاستثمارُ الحقيقي لا يُقاس فقط بحجمِ الأموالِ المُتدفِّقة، بل بما يتركُه من أثَرٍ على حياةِ النَّاسِ، وعلى شكلِ المُدُن، وعلى الفرصِ الَّتي تُفتحُ أمامَ الأجيالِ القادمة، وإذا استمرَّتْ عُمانُ في نهجِها الطَّموح، فإنَّ السَّنواتِ القادمةَ لن تشهدَ فقط زيادةً في حجمِ الاستثمارات، بل في جودةِ الحياةِ، وفي قوَّةِ الاقتصادِ، وفي حضورِ سلطنةِ عُمانَ على السَّاحةِ العالَميَّة كمركزٍ حيوي للاستثمارِ والتَّنمية، فعُمانُ قادرةٌ على المنافسةِ دُونَ أنْ تتخلَّى عن ثوابِتِها، وعلى جذبِ العالَمِ إِلَيْها دُونَ أنْ تبتعدَ عن ذاتِها.