الاثنين 03 مارس 2025 م - 3 رمضان 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : رمضان ما بين جوهر الصيام والاستهلاك المفرط

السبت - 01 مارس 2025 06:35 م

رأي الوطن

70


يأتي شَهْرُ رمضان كُلَّ عامٍ محملًا بنفحاته الإيمانيَّة، فهو فرصة عظيمة لتزكية النُّفوس والتَّقرُّب إلى الله بالصِّيام والقيام والعبادات، وهو الشَّهْرُ الَّذي اختصَّه الله سبحانه وتعالى بعبادة الصِّيام، وجعلها له وحده في الحديث القدسي: (كُلُّ عمل ابن آدم له إلَّا الصَّوم فإنَّه لي وأنا أجزي به). لكن مع مرور الزَّمن، تحوَّل رمضان عِندَ كثير من النَّاس من شَهْر تقوى وزُهد إلى موسم استهلاكي بامتياز، حيث يُنظر إِلَيْه وكأنَّه شَهْرُ الولائم والتَّسوُّق والتَّباهي بالمائدة العامرة، أكثر من كونه شَهْرَ الصِّيام والتَّقرُّب إلى الله، وهذا التَّحوُّل في المفاهيم لم يأتِ من فراغ، بل هو انعكاسٌ لواقعٍ اجتماعي واقتصادي وإعلامي، يدفعنا باتِّجاه الاستهلاك المفرط، حتَّى باتَ الشَّهْرُ الَّذي كان يَجِبُ أنْ يكُونَ فرصةً لتهذيب النَّفْس، موسمًا للإفراط في الطَّعام والمشروبات ومتابعة البرامج التَّرفيهيَّة، بَيْنَما يَنْسَى الكثيرون الحكمة الأساسَ من الصِّيام، وهي الشُّعور بحال الفقراء، وضبط النَّفْس، والتَّقليل من التَّعلُّق بملذَّات الدُّنيا.

إذا نظَرنا إلى التَّاريخ، سنجد أنَّ رمضان لم يكُنْ يومًا شَهْرَ كسَلٍ وخُمولٍ أو استهلاكٍ مفرط، بل كان شَهْرَ الانتصاراتِ الكبرى. ففيه وقَعتْ معركة بدر الَّتي كانتْ لحظةً فارقة في التَّاريخ الإسلامي، كما شهدَ فتْحَ مكَّة، وحربَ أكتوبر 1973 الَّتي أعادتْ للأُمَّة بعضًا من عزَّتها.. فهذه المحطَّات التَّاريخيَّة تؤكِّد أنَّ رمضان كان شَهْرَ قوَّةٍ وصبر، لا شَهْرَ استسلامٍ للشَّهوات. لكن عِندَ المقارنة بَيْنَ الماضي والحاضر، نرى كيف تغيَّرت أولويَّات المُسلِمِين، فبَيْنَما كان الصِّيام تدريبًا على الجهاد وضبطِ النَّفْس، أصبح اليوم عبئًا على ميزانيَّات الأُسر، يستهلك دخلها في شراء أضعاف حاجاتها الحقيقيَّة، والأسوأ أنَّ هذه العادات الاستهلاكيَّة تستنزفُ موارد الدَّولة، حيث يتمُّ استيراد كميَّات ضخمة من المواد الغذائيَّة، ما يؤدِّي إلى زيادة الضَّغط على العملات الصَّعبة، بَيْنَما الأصْلُ في الصِّيام أنْ يكُونَ مدرسةً في التَّقشُّف والاعتدال، لا مناسبةً للإسرافِ والتَّبذير. وفي خضمِّ هذا السُّلوك الاستهلاكي، نَنْسَى أنَّ هناك من لا يجدُ ما يسدُّ جُوعَه، ومَنْ يعيشُ رمضان تحت القصفِ والتَّشريد، كإخواننا في فلسطين الَّذين يُعانون من جرائم الاحتلال الصُّهيوني، ويَعيشونَ في العراء في ظلِّ أجواء مناخيَّة قاسية.. وبَيْنَما ننشغلُ نحن بتجهيز موائدنا، يقضي أطفال فلسطين ليالي رمضان على أنقاض منازلهم، يواجهونَ الموت والحرمان، بدلًا من أنْ ينعموا بالأمان والسَّكِينة. هذا الواقع يدعونا إلى التَّفكير بجديَّة في معنى الصِّيام الحقيقي، فهل هو مجرَّد الامتناع عن الطَّعام والشَّراب؟ أم هو شعور بالآخرين، ومحاولة مساعدتهم، والوقوف إلى جانبهم بالدُّعاء والعطاء والدَّعم الفعلي؟ فمأساة فلسطين ليسَتْ مجرَّد كارثة إنسانيَّة، بل هي اختبار لضمير الأُمَّة، ورمضان هو الوقتُ الأنسَبُ لِنستعيدَ وعْيَنا، وندركَ أنَّ الصِّيام يَجِبُ أنْ يتجاوزَ أجسادنا لِيصلَ إلى أرواحنا، ويدفعَنا لفعلِ الخير ونصرةِ المظلومين.

إنَّ شَهْرَ رمضان فرصةٌ لمراجعةِ أنْفُسِنا، وإعادة توجيه بوصلتنا نَحْوَ الغاية الحقيقيَّة من الصِّيام، فبدلًا من أنْ نغرقَ في المسلسلات والتَّسلية المفرطة، لِنستثمِر هذا الشَّهْرَ في العبادة، وتوطيد علاقتنا بالله، وإحياء قِيَم التَّكافل والعطاء، كما كان يفعل النَّبي ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ حين كان أجودَ النَّاس في رمضان، وبدلًا من أنْ يكُونَ رمضان شَهْرَ إرهاقٍ اقتصادي، فلْنَجعلْهُ شَهْرَ زُهدٍ ووعيٍ استهلاكي، نفرِّق فيه بَيْنَ الحاجة الحقيقيَّة والرَّغبات الزَّائفة. إنَّ رمضانَ ليس مجرَّد شَهْرِ صيامٍ، بل هو محطَّة تغيير، وفرصة ذهبيَّة لتصفيةِ القلوب، واستعادة الروحانيَّة الَّتي افتقدناها في زحام الحياة. فهل نغتنم الفرصة هذه المرَّة؟ أم نتركُها تضيع كما ضاعت في أعوامٍ مضَتْ؟ اللَّهُمَّ اجْعَلْنا من عتقاء هذا الشَّهْرِ، وأعِدِ الأُمَّةَ إلى رُشدها، لِنعيشَ رمضان كما أرادَه اللهُ، لا كما صوَّرته لنَا ثقافة الاستهلاك.