السبت 22 فبراير 2025 م - 23 شعبان 1446 هـ
أخبار عاجلة

عالم بلا إنترنت

الأربعاء - 19 فبراير 2025 01:11 م

د.أحمد مصطفى أحمد

160

أثارَ عنوان في الأخبار المحليَّة ببريطانيا هذا الأسبوع مسألة في غاية الخطورة والأهميَّة قد تُعَدُّ جرس إنذار للعالَم كُلِّه فيما يتعلَّق بالاعتماد المُفرط على التكنولوجيا. فنتيجة عطل كبير في شركة «كوميونيتي فايبر» للإنترنت واسع النِّطاق أصبح الآلاف من عملاء الشَّركة بلا إنترنت ما أدَّى إلى اضطراب أعمال وتعطُّل مصالح وبحثٍ محموم من النَّاس عن مصادر أخرى للاتِّصال بالشَّبكة العنكبوتيَّة وإن بطريقة بطيئة ومتواضعة عن خدمة الإنترنت واسع النِّطاق الَّتي يشتركون فيها وتوقفت. ومع أنَّ ذلك أمْر وارد الحدوث، ورُبَّما حتَّى بشكلٍ أكبر وبالنِّسبة لمناطق واسعة، كما يحدُث حين يتضرَّر أحَد كابلات الإنترنت الرَّئيسة، إلَّا أنَّ تكرار مِثل هذه الأحداث يكشف كُلَّ مرَّة عن مدَى الضَّرر الَّذي يُمكِن أن يحدثَه تعطُّل خدمة الإنترنت الَّتي أصبح العالَم يعتمد عَلَيْها في أغْلَبِ نشاطاته تقريبًا. على سبيل المثال، كان أكبر تضرُّر من تعطُّل خدمة الإنترنت للشَّركة البريطانيَّة أنْ توقفَ الآلاف من العاملين عن بُعد عن أداء مهام وظيفتهم بأعمالهم. فالعمل من المنزل يعتمد تمامًا على خدمة إنترنت قويَّة قد يكُونُ من الصَّعب تعويضها بالإنترنت على الهاتف الذَّكي.

صحيح أنَّ الأعطال واردة دائمًا، وأنَّ هناك بدائل في بعض الحالات يُمكِن للبعض الاستعاضة بها عن تعطُّل خدمة الإنترنت عَبْرَ شركات كابلات الألياف الضَّوئيَّة، لكن ذلك لا يمنع المخاطر والأضرار الَّتي تزيد كُلَّما طالتْ فترة إصلاح الأعطال. كما أنَّ النُّموَّ المستمرَّ في الاعتماد على الإنترنت في أنشطة كثيرة يعني أنَّ كُلَّ دقيقة انقِطاع عن الاتِّصال بالشَّبكة يعني خسائر لا حدَّ لها. وإذا كانتِ الأضرار المادِّيَّة والخسائر في الأعمال والأموال قابلة للتَّعويض فيما بعد، وهي في النِّهاية جزء من حسابات المخاطر لأيِّ عمل كان، فإنَّ هناك أضرارًا صعبة التَّعويض. على سبيل المثال، ومع الاعتماد الكامل لأجهزة المستشفيات وغيرها من المعدَّات الحيويَّة على الكهرباء يتمُّ وضع احتياطي توليد يعمل فَور انقِطاع الَّتيار عن الشَّبكة الرَّئيسة للحفاظِ على حياة المَرضى، وكذلك في المنشآت الحسَّاسة الَّتي قد يؤدِّي تعطُّلها لإزهاق الأرواح. أمَّا بالنِّسبة للإنترنت، فحتَّى لو توافرتْ مصادر بديلة فإنَّ الانتقال من الخدمة الرَّئيسة إلى الخدمة الاحتياطيَّة سيأخذ وقتًا يكلِّف خسارةً هائلة مادِّيَّة وبَشَريَّة. ليس الحديث هنا عنِ احتمالات اختراق الشَّبكة وتعطيل عملها، ولكن عن انقِطاع نتيجة عُطل في كابل أو في خوادم مزوِّد الخدمة. ويتطلب إصلاح ذلك وقتًا قد يطول وتزيد معه الخسائر والأضرار.

هل يُمكِن تخيُّل مثلًا بضعة حوادث متزامنة تُصيب الكابلات البحريَّة الكبيرة الَّتي تربط العالَم كُلَّه عَبْرَ شبكة الإنترنت واسع النِّطاق؟ وهو ما يُمكِن تعويضه حتَّى بالإنترنت عَبْرَ الأقمار الصِّناعيَّة الَّتي تظلُّ محدودة الاستخدام ومقصورة على بعض الجهات والمؤسَّسات الحسَّاسة. ما الَّذي يُمكِن أنْ يحدُثَ إذا أصبح العالَم فجأة بلا إنترنت لعدَّة ساعات حتَّى؟ ستُصاب أنشطة البَشَر في أرجاء الأرض بالشَّلل التَّام ولا يُمكِن حصر الأضرار والخسائر في الأعمال والأنشطة المختلفة وحتَّى في الأرواح النَّاجمة عن عالَم بلا إنترنت لساعات. بالطَّبع ليس المقصود من هذا التَّصوُّر المُرعب أنْ يتخلَّى العالَم عن تطوير التكنولوجيا واستخداماتها الَّتي تسهل حياة البَشَر، إنَّما القصد هو التَّحوُّط للمخاطر. ولعلَّ التَّحذير بالصَّدمة هو أفضل السُّبل لتشجيع الحذر وابتكار البدائل الفاعلة للاعتماد الكامل على التكنولوجيا، وخصوصًا شبكة الإنترنت. ففي كُلِّ الأنشطة الحيويَّة والحسَّاسة الَّتي تحوَّلتْ إلى العمل الآلي في العقود الأخيرة هناك دومًا خيار الانتقال من الآلي إلى اليدوي في حالة الأعطال والكوارث. لكن بالنِّسبة للإنترنت وما أصبحنا عَلَيْه من اعتماد شِبه كامل عَلَيْها في أغْلَب نشاطات حياتنا فيبدو الانتقال إلى البديل أكثر صعوبة.

ميزة الإنترنت، وعَيْبها في الوقت نَفْسه، أنَّها تساعد البَشَر على تخزين وتشغيل البيانات والمعلومات الهائلة. وشيئًا فشيئًا لم نَعُدْ نحتفظ بسجلَّات مادِّيَّة لِمَا نخزِّنه ونسترجعه ونشغِّله بواسطة الحاسوب (الكمبيوتر) والهاتف الذَّكي عَبْرَ الإنترنت. صحيح أنَّ كثيرين يحتفظون بنسخةٍ أخرى (صورة داعمة) في مكان مختلف، سواء على أقراص حاسوب (كمبيوتر) منفصلة أو بالتَّخزين عَبْرَ «الحوسبة السَّحابيَّة» (كلاود) لكن ذلك أيضًا بحاجة إلى الشَّبكة للاسترجاع والاستخدام. وإذا كانت بعض الجهات والمؤسَّسات المهمَّة تطوُّر وسائل للعمل بسرعة في حالة تعطُّل الشَّبكة الحاسوبيَّة (الكمبيوتريَّة) فإنَّ ذلك ليس سوَى حلٍّ مؤقَّت لفترةٍ محدودة. أمَّا بقيَّة الأعمال وأغْلَب الأُسر والأفراد فليس لدَيْهم تلك الميزة باللُّجوء إلى وسيلة احتياطيَّة للاستمرار في حياتهم كما اعتادوا. ثمَّ إنَّ سنوات الاستخدام المُتنامي للتكنولوجيا والإنترنت بخاصَّة جعل البَشَر يستسهلون ولا يحتفظون بأيِّ نُسَخ مادِّيَّة ممَّا يحتاجون إِلَيْه. بل على العكس، يسْخَر البعض ممَّن لا يزال يستخدم الدَّفاتر الورقيَّة إلى جانب أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر)، أو يعتمد على النَّقد المادِّي بدلًا من تطبيقات الدَّفع الرَّقمي على الهواتف الذَّكيَّة.

لعلَّ حوادث انقِطاع الإنترنت الَّتي تتكرَّر بَيْنَ الحين والآخر في مناطق مختلفة من العالَم تكُونُ حافزًا للبَشَر على تطوير وسائل بديلة موازية لها للاحتفاظ بالأساسيَّات والضَّروريَّات الَّتي يُمكِن اللجوء إِلَيْها بشكلٍ مادِّي، ورُبَّما يدويًّا أيضًا، في حالات الأزمة.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]