الأربعاء 19 فبراير 2025 م - 20 شعبان 1446 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : المتنزهات والمماشي المتكاملة وعلاقتها بجودة الحياة والصحة النفسية والاجتماعية «متنزه المعبيلة نموذجا»

في العمق : المتنزهات والمماشي المتكاملة وعلاقتها بجودة الحياة والصحة النفسية والاجتماعية «متنزه المعبيلة نموذجا»
السبت - 15 فبراير 2025 01:40 م

د.رجب بن علي العويسي

30


تُمثِّل المُتنزَّهات والمُتنفَّسات التَّرويحيَّة والمسطَّحات الخضراء والمماشي المتكاملة في شكلها الجديد وأُسلوبها العصري، أحَد مُحدِّدات السَّعادة ومؤطِّرات جودة الحياة في المُجتمع، وترسيخ ثقافة التَّرويح؛ باعتباره نمطًا حياتيًّا وسُلوكًا اجتماعيًّا لحياةٍ ملؤها التَّفاؤل والإيجابيَّة والأمان والسَّلام؛ وأدركتِ الجهات المعنيَّة في سلطنة عُمان في إطار مستهدفات رؤية «عُمان 2040» في محور تطوير المحافظات واستدامة المُدُن، والهدف الاستراتيجي: «مُدُن ذكيَّة ومستدامة نابضة بالحياة وريف حيوي بجودة عمرانيَّة عالية للمعيشة والعمل والتَّرفيه» أهميَّة تعظيم هذا المسار وترقيته وتأكيده في السِّياسات العمرانيَّة والممارسة التَّخطيطيَّة والحضريَّة انطلاقًا من العلاقة المتجذِّرة والتَّأثير المستدام بَيْنَ التَّوَسُّع المُمنهج والمؤطَّر في البيئات التَّرويحيَّة والجَماليَّة والتَّنظيميَّة في الأحياء السَّكنيَّة وعلاقتها بجودة الحياة والسَّلام الدَّاخلي والعلاقات الاجتماعيَّة في الأحياء السَّكنيَّة وخلق روح التَّغيير في سُلوك السكَّان القاطنين فيها.

ولم يَعُدْ يُنظر إلى وجود هذه الخدمات في الأحياء السَّكنيَّة بمحافظة مسقط وغيرها من محافظات سلطنة عُمان ـ الَّتي تشهد تزايدًا كبيرًا في أعداد السكَّان والمنشآت الاقتصاديَّة والإداريَّة ـ باعتباره ترفًا اجتماعيًّا خارج إطار الاحتياج، بل خيار استراتيجي في رسم صورة جَماليَّة للحياة في إطار الذَّوق والجَمال والابتكاريَّة في صناعة هذه البيئات الَّتي تستهدف جودة الحياة وتعظيم مفهوم العيش الآمن والاحتواء للقاطنين في الأحياء السَّكنيَّة، وتُعزِّز من فرص تحقيق مؤشِّرات السَّعادة والجودة واستيعاب المفاهيم العصريَّة لأنسنة المُدُن الَّتي باتَتْ تُحدِّد ملامح التَّطوُّر والنُّمو في المُدُن وجعلها قادرة على استيعاب واحتواء مختلف الفئات والعيش فيها في إطار الإنسانيَّة والقِيَم والمشتركات، وبما يَضْمن قدرتها على تحقيق تحوُّل في الفرص الاستثماريَّة ورفع الفرص الأمان النَّفْسي لحياة النَّاس، وتوفير بيئة صحيَّة وجَماليَّة، ترفع من مستوى الذَّائقة الجَماليَّة وتقدير المشاعر العامَّة في المُجتمع.

وانطلاقًا ممَّا سبَق ذِكره، وتعظيمًا لشأن الجهود الوطنيَّة الَّتي أنتجتِ الكثير من النَّماذج المُضيئة للمُتنزَّهات والمتنفَّسات والمماشي المتكاملة في الفترة الأخيرة، والَّتي أعطتْ صورةً ذهنيَّة مشرِقة حازتْ على تقدير اجتماعي وارتياح شَعبي في مسار بناء هذه المُتنزَّهات والمماشي المتكاملة وإعادة إنتاجها وضمان صناعة المحتوى الثَّقافي والبيئي الوطني، فإنَّ ما شهدته منطقة المعبيلة ـ وهي إحدى مناطق الإسكان الحديثة في محافظة مسقط ـ من إنشاء مُتنزَّه المعبيلة كإحدى هذه البيئات التَّرويحيَّة الَّتي تحتضن سكَّان المنطقة وغيرهم والَّذي أشرفتْ عَلَيْه بلديَّة مسقط بالشَّراكة مع شركة (أوكسيدنتال عُمان) أحَد هذه النَّماذج الَّتي أعطتْ منطقة المعبيلة وجهًا جديدًا وواجهة حضاريَّة تُعبِّر عن فلسفةٍ جديدة في البناء الحضري.

وبالتَّالي ما يعكسُه هذا التَّوَجُّه الوطني بالتَّوَسُّع في هذه المُتنزَّهات وانتشارها من رُقي في التَّعامل مع احتياجات الأفراد وتعزيز الشُّعور لدَيْهم بأهميَّة الانتماء للمكان الَّذي يقطنونه ويعيشون فيه، وتعظيم وجود بيئات ترويحيَّة جاذبة قادرة على تعزيز التَّعايش وترسيخ منطلقات الوئام الإنساني، وتوليد بدائل متنوِّعة في طريقة احترام هذه البيئات والتَّعاطي معها والتزامهم بمتطلباتها بشكلٍ يُراعي تعدُّد احتياجات الأفراد وتنوُّع ذائقتهم الجَماليَّة ويستحضر مؤشِّرات التَّحوُّل الَّتي يُبرزها واقع المُجتمع بترقية وجود هذه البيئات الحيويَّة لتشاركَ البيوت في تحقيق فرص الاستجمام والاسترخاء ومتنفَّسات لقضاء وقت الفراغ وتكوين فرص أعمق للعلاقات الأُسريَّة والعائليَّة والاجتماعيَّة.

وعَلَيْه واستجابةً لطلبِ العديد من القرَّاء والمُتابعين لمقالِنا السَّابق المنشور في جريدة وجهات الإلكترونيَّة؛ بكتابة مقال يتناول هذا الموضوع وطرح فكرة التَّوَسُّع في هذه المُتنزَّهات والمماشي المتكاملة، فإنَّنا نؤكِّد وبعدَ مرور فترة على تشغيل مُتنزَّه المعبيلة أمام سكَّان المنطقة، بأنَّ ما شاهدناه ولمَسناهُ من اهتمام مختلف فئات المُجتمع، ومساحة الفرح والبهجة والإشراقة والأُنس الَّتي أضافها مُتنزَّه المعبيلة وأحدثها في حياة النَّاس، يضعنا اليوم أمام استحقاق وطني نُقدِّم فيه لبلديَّة مسقط والشَّركة المُنفِّذة للمشروع شكرنا وتقديرنا وتثميننا لهذا المنجز النَّوْعي بكُلِّ المقاييس؛ فإنَّ الميزة التَّنافسيَّة الَّتي أضافَها مُتنزَّه المعبيلة تجسِّدها الحقائق وتعكسها المشاعر ولا يُمكِن احتواؤها في مقال، ويكفي أن نشيرَ إلى أنَّ منطقة المعبيلة تشهد نشاطًا إسكانيًّا ورواجًا اقتصاديًّا ويزيد عدد سكَّانها على (100) ألف نسمة وهي بحاجة ماسَّة لمِثل هذه المشاريع الحيويَّة.

وأضيف هنا بعض اللَّطائف والفرص الَّتي نعتقد بأنَّ مُتنزَّه المعبيلة قد أسهَم في تحقيقها وتستدعي وقوف الجهات المعنيَّة على رصدِ مؤشِّراتها، ومن ذلك ما يأتي:

ـ قدَّم المُتنزَّه رياضة المشي باعتبارها ثقافة مُجتمعيَّة لها أبعادها الصحيَّة والنفسيَّة، وهو أمر يظهر في المسافة الطوليَّة الَّتي يقطعها المُتنزَّه والَّتي تصل إلى 6كم، الأمْرُ الَّذي أعطى السكَّان من مختلف الفئات فرصًا أكبر لإنجاز هذه المسافة بشكلٍ يومي.

ـ ثقافة المشي عوضًا عن كونها حالة صحيَّة فهي أيضًا وسيلة تواصُل بَيْنَ الأُسرة والزوجيْنِ والأبناء وأفراد المُجتمع والأصدقاء، الأمْرُ الَّذي له أثَره الإيجابي في الارتقاء بالحياة الأُسريَّة والاجتماعيَّة وتعظيم مساحة الثَّقافة الحواريَّة فيها.

ـ التَّصميم الحديث لمُتنزَّه المعبيلة واستحضاره جملة من المعايير والمرتكزات، سواء ما يتعلق بمعايير الأمن والسَّلامة، أو بطريقة تصاميمه الجَماليَّة حيثُ راعى إلى حدٍّ ما هذه المعطيات وأعطى ميزة أفضل في طريقة تصميم المُتنزَّهات والمماشي المتكاملة في الأحياء السكنيَّة بشكلٍ أفضل عن التَّصميمات السَّابقة.

ـ شكَّلتِ الطَّبيعة الطُّوليَّة للمُتنزَّه فرصةً كبيرة في إيجاد مواقف للسيَّارات وأعطى ميزة في سهولة وصول الأُسر وكبار السِّن أو الأطفال إلى أماكن وجود الأدوات والأجهزة الرِّياضيَّة أو الألعاب أو المصلَّيات ودَوْرات المياه.

ـ البُعد الاستثنائي في مُتنزَّه المعبيلة يظهر أيضًا في وجود أنفاق أرضيَّة مصمَّمة بطريقةٍ احترافيَّة في اتِّساعها للحدِّ من قطعِ الطُّرقات العامَّة (شارع الخير والإعمار) أو تعطيل حركة السَّير أو التَّعرُّض للحوادث أو غيرها، كما أسهمَتْ طريقة عمل هذه الأنفاق والجسور في استخدامها من مختلف فئات المُجتمع من الصِّغار والكبار وذوي الإعاقة وعربات نقل كبار السِّن وغيرها بحيث شكَّلت جسر اتِّصال وربط بَيْنَ المحطَّات الثَّلاث للمُتنزَّه.

ـ تخطيط وتصميم المُتنزَّه بوجود مسارَيْنِ، أحدهما للمشاة وآخر للدرَّاجات والسكوترات ومصمَّمة بشكلٍ يمنح مستخدم هذه المسارات أريحيَّة في المشي، مع إمكانيَّة أن يضافَ مستقبلًا ممشى رملي لصحَّة القدمين والَّذي يُمثِّل بيئة محاكاة للشواطئ.

ـ مُتنزَّه المعبيلة أحدَثَ تحوُّلًا نَوعيًّا في ثقافة سكَّان المنطقة وله أثَره الصحِّي ونعتقد بأنَّ قياس مستوى الصحَّة النَّفْسيَّة والجسديَّة اليوم وبعدَ تشغيل المُتنزَّه تفوق ما عَلَيْه قَبل ذلك؛ فإنَّ الممارسة النَّاتجة عَنْه تدعمُ الصحَّة النَّفسيَّة وتُمثِّل بيئات محاكاة صحيَّة مفعمة بجودة الحياة والحركة والنَّشاط البَدَني والنَّفْسي والاجتماعي، الأمْرُ الَّذي يُقلِّل من الأمراض والضَّغط الحاصل على المؤسَّسات والمراكز الصحيَّة؛ كما يُقلِّل من الأمراض المُزمنة الَّتي باتَتْ تُشكِّل خطرًا على حياة النَّاس خصوصًا أمراض السكَّري والسُّمنة النَّاتجة عن الخمول البَدَني وغياب الدَّافع والحافز لرياضة المشي، نظرًا لعدم وجود مماشٍ صحيَّة تُعزِّز من سُلوك المشي أو لبُعدِها عن منطقة المعبيلة بالاتِّجاه إلى مُتنزَّه الصَّحوة أو شاطئ السيب.

ـ الصُّورة الذِّهنيَّة المُشرقة الَّتي قدَّمها المُتنزَّه لسكَّان منطقة المعبيلة، وتعويضهم صخب الازدحام المروري والاكتظاظ السكَّاني وقلَّة المُتنفَّسات الَّتي تُتيح لهم ممارسة هواياتهم اليوميَّة خارج الشَّوارع الداخليَّة، وبما يُتيحه من قِيمة مُضافة في فرادته وجَماليَّاته ومساحة التَّجديد فيه، لتجسِّدَ في الذِّهن صورة المواطنة والانتماء للمكان في أصدق تعابيرها وأجمل مواقفها.

أخيرًا، نؤكِّد من خلال مقالنا على أهميَّة تعظيم حضور المُتنزَّهات والمُتنفَّسات والمماشي المتكاملة والتَّوَسُّع فيها وإعادة توزيعها، واستحضارها بشكلٍ أساس في المسار التَّخطيطي للأحياء السكنيَّة القائمة والمخطَّطات السكنيَّة المستحدثة دُونَ استثناء، وأهميَّة تكرار التَّجربة في مختلف ولايات سلطنة عُمان بمواصفات ومعايير تراعي نوعيَّة الطُّرق المستخدمة في التَّصميم، والاستفادة من تقنيَّات الذَّكاء الاصطناعي في تصميم وتهيئة هذه المُتنزَّهات، بإضافة الهواء الجوِّي النَّقي وعَبْرَ إيجاد بخَّاخات رشّ رذاذ المياه لتلطيفِ الأجواء في وقت الصَّيف وإضافة اللَّمسات الجَماليَّة في الموقع من حيث وفرة الألعاب والأدوات الرِّياضيَّة والصِّيانة الدَّائمة لها، والعناية بمتطلبات النَّظافة والسَّلامة والأمان والإنارة، والتَّنويع في وسائل وأدوات وأنشطة التَّرويح، وإدخال التَّجديد والتَّطوير فيها وذلك بإدارة هذه البيئات وفق رؤية تطويريَّة وتقييميَّة واضحة تقرأ التَّحوُّلات والمستجدَّات الحاصلة وتستوعب طموحات ورغبات السكَّان تحقيقًا للاستدامة وحفزًا للتَّنوُّع.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]