ثانيًا: برنامج طموح يتوافق مع عظمة «خان بالق».
خَطَا الطَّائر العُماني الَّذي طار بنا إلى بانكوك محطَّة الترانزيت قَبل وصولنا إلى بكّين، خطواته الأولى في مدرج مطار مسقط الدّولي، بتؤدة وأناة، منتقلًا بشكلٍ تدريجي إلى سرعات أعلى تُمكِّنه في بضع دقائق من الطيران في هذا الفضاء ببلدانه ومُدُنه وبحاره وجباله، وركابه مسلِّمين أمْرَهم وتدبيرهم وسلامة أرواحهم وأجسادهم لخالق الكون، ربِّ العزَّة ـ جلَّ جلاله ـ وللطَّاقم الَّذي يمتلك التخصُّص والخبرة والكفاءة لتجنيبِ رحلاتهم المخاطر وضمان بلوغ الوجهة المقصودة في خير وعافية وسلامة. بعد أن أنهيتُ دعاء السَّفر المعلوم، انشغلتُ بقراءة رواية «الانهيار» للرِّوائي الفرنسي «توماس برونك»، الصَّادرة عن المجلس الوطني للثَّقافة والفنون والآداب. وهي رواية متخيلة، مُشبعة بمصطلحات ومفاهيم الفكر السِّياسي، الدستور، المؤسَّسات، الحُريَّة، الديمقراطيَّة، البند الدستوري، مجلس الشُّيوخ، المجلس النِّيابي، الانتخاب، صناديق الاقتراع، التَّمثيل... وتتناول قضايا وإشكالات ما بعد الفوز المفاجئ، للحزب المنتمي إلى جماعة «الخضر»، المُدافعين عن البيئة والمناخ، بالانتخاب أوَّلًا، ومحاولة الانقلاب على مبادئ الديمقراطيَّة والمؤسَّسات، بعد ذلك، بحجَّة تمرير السِّياسات والقرارات والقوانين الغريبة على المُجتمع، الَّتي من شأنها حماية الكون من تلوُّث الإنسان، والحفاظ على المستقبل البَشَري من الانقراض، كخفض حركة وعدد الطَّائرات والسيَّارات وترشيد تناول اللُّحوم لمرَّة واحدة على الأقلِّ في الأسبوع، ومناهضة الحمل والولادة... تمضي الرِّواية المدهشة، ممارسة بلُغتها الأنيقة وغنى محتواها، هيمنتها على القارئ، بتجاذباتها وإشكالاتها، بَيْنَ المناصرين والمعارضين لإجراءات الرَّئيس في نقاشات وحوارات مفعمة بالإثارة والحجج، وفضح مؤامرات ومكائد السَّاسة في النِّظام الديمقراطي للانقضاض على الحُكم بمبرِّرات ودعاوي تستند إلى مصلحة البلاد وتمثيل الأُمَّة والدِّفاع عن حقوقها ومنافعها، وتفصح في الوقت ذاته، عن المستوى الرَّفيع لثقافة وسعة مدارك كاتبها، وإلمامه بتقاليد السِّياسة وممارساتها في أوروبا... من نوافذ طائرة «التاي»، الَّتي بدأتْ هبوطها التَّدريجي نَحْوَ مطار «داشينج»، «ثاني أكثر المطارات ازدحامًا في العالَم»، كانتِ الحماسة والتَّوق في أشدِّهما ونحن نمدُّ أبصارنا لِتبين ملامح العاصمة الصينيَّة، بكّين، أي «خان بالق»، بالعربيَّة، والمصنَّفة كأعلى المُدُن «اكتظاظًا بالسكَّان» في العالَم، وتستحوذ على المركز الرَّابع امتلاكا للمؤسَّسات الماليَّة وإجمالي الأصول، وواحدة من أقدم المُدُن، والأكثر غنى بالآثار والتَّقاليد ومفردات وبقايا الحضارات والممالك القديمة، وما زالتْ مبانيها تمزج بَيْنَ الطُّرز المعماريَّة القديمة والحديثة في مشاهد ملهِمة تُلهب المشاعر وتحبس الأنفاس. الملامح الأولى الَّتي كشف عَنْها عالَم ما بعد البوَّابة الَّتي استقبلتْ ركَّاب رحلتنا، تشي بتواضُع الحركة وضآلة المبنى وأصابتنا بالإحباط، وفي حيرة من أمْرِنا، متسائلين كيف للمطار الأوَّل في بكّين أن يكُونَ بهذا الصِّغر وضعف النَّشاط، ولكن سرعان ما حلَّت محلَّ الحيرة والاستغراب دهشة وانبهار وذهول، بعد إبلاغنا بأنَّ استلام الحقائب يتطلب منَّا الانتقال في قطار المطار إلى قاعة أخرى تبعد كثيرًا عن موقع الاستقبال، كاشفًا هذا التنقُّل عن غابة من المرافق والأبنية والقاعات والأسواق الحُرَّة والبوَّابات ودهاليز من الممرَّات والجسور وحشود هائلة من البَشَر بَيْنَ قادم ومغادر، وأنظمة تقنية عالية الجودة والتقدُّم، تخاطب كُلَّ جواز باللُّغة الَّتي كُتب بها... مطار بكّين بعوالمه ومتاهاته وضخامته وجَمال معماره، يعلن عن قوَّة وتقدُّم الصِّين وسطوتها العلميَّة وازدهارها الاقتصادي، يقابل ذلك ضريبة الشُّعور بالتَّعب والضَّغط النَّفْسي والضِّيق واستهلاك الوقت، خصوصًا إذا كان القادم من رحلة مرهقة، ولم يذقْ طعم النَّوم لساعاتٍ طويلة... غادرنا المطار في لحظات كان فيه اللَّيل يسدلُ سواده طاردًا ضوء النَّهار عن عالَم العاصمة الصينيَّة لِيتسيدَ المشهد كاملا، والأشجار سلبها الشِّتاء القارص في درجة تصل إلى ما تحت الصِّفر، أوراقها وجرَّدها من خضرتها وحوَّلها إلى أغصان وفروع جافَّة، فيما البنايات العصريَّة المغطَّاة بالمرايا، المختالة بجَمال العمارة وتنوُّعها وتناسقها، ومزجها بَيْنَ الحداثة والحفاظ على لمسات الفنِّ الهندسي التَّقليدي، تتلألأ في فضاء بكّين، أشبَه بالنُّجوم الَّتي تزيِّن السَّماء، غير مكترثة بتعاقب فصول السَّنة، وليسَتْ معنيَّة بحَرِّ الصَّيف أو بردِ الشِّتاء. الازدحام المروري تعاني مِنْه المدينة، كمُعْظم مُدُن العالَم، رغم وفرة وسائل النَّقل بأنواعها المتقدِّمة والمستخدمة لأحدَث التقنيَّات، ما يؤكِّد على أنَّ الاختناقات أصبحتْ ظاهرةً عامَّة تكلِّف الحكومات الكثير من الأموال وتصيب الإنسان بالضَّغط والمَرض والضِّيق وتضييع الوقت والجهد، وتُحدث ضررًا بليغًا وتلوُّثًا بالبيئة... يَقُودُ النِّظام السِّياسي في بكّين، الصِّين إلى مستقبل تهيمن فيه ثورتها العلميَّة والاقتصاديَّة وقوَّتها النَّامية على العالَم، وتُثير رعبَ الغرب وفي مقدِّمته الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، قلقًا وخوفًا من أن يجدَ نفوذه قد تضاءل واقتصاده انكمش، فلا غرو أن يقرَّ القوانين ويرفعَ نِسَب الضَّرائب لمحاربة الصِّناعات الصينيَّة الَّتي تغزو أسواقه وتتسبب في إغلاق وإفلاس المصانع والشَّركات الغربيَّة... احتوى برنامجنا الغني والنَّشط، التّطواف بَيْنَ أهمِّ المُدُن الصينيَّة، «بكين»، و»شنغهاي»، العاصمة الاقتصاديَّة والقطب الأبرز في النَّشاط الصِّناعي، الَّذي تتبوأ الصين السِّيادة عَلَيْه، وأكبرها من حيث عدد السكَّان بأكثر من (٣١) مليون إنسان، والَّتي بدأ عهدها الاقتصادي المزدهر في (1842) بعد اتفاقيَّة «نادكين»، بالانفتاح على تجارة العالَم وأسواقه، وأصبح ميناؤها من أنشط الموانئ إذ كانت تبحر مِنْه ربع التِّجارة الصينيَّة البحريَّة، وتحوَّلت إلى منطقة امتيازات وتدفقت إليها الأصول الأجنبيَّة للاستثمار في الصِّناعات المحليَّة. و»كوانزو»، المعروفة تاريخيًّا بـ»كانتون»، واستقبل ميناؤها عددًا كبيرًا من التجَّار العرب والمُسلِمِين، وزارها الرحالة ابن بطوطة، وأبو زيد السيرافي، وتقع في جنوب الصين على ضفة نهر «اللؤلؤ»، رابع أكبر أنهر البلاد، وتُعَدُّ اليوم من أهمِّ الوجهات التجاريَّة والسياحيَّة، ومقصدًا للتجَّار العُمانيِّين الَّذين يشترون من أسواقها الكثير من المنتجات والصِّناعات للتَّرويج لها وبيعها في السُّوق العُماني، كونها تجد إقبالًا واسعًا بسبب تميزها وبلوغها مستوًى عاليًا من الجودة والابتكار، ولأسعارها المتواضعة مقارنةً بالصِّناعات الأوروبيَّة والأميركيَّة واليابانيَّة. و»شينزين»، الَّتي نمَتْ وازدهرت من رحم هونج كونج المدينة الَّتي وُصفتْ بأنَّها «الأكثر نفوذًا في العالَم»، و»المكان حيث يلتقي الشَّرق بالغرب»، ارتفع عدد سكَّانها بشكلٍ كبير من عشرين ألفًا في عام 1980م، إلى أن أصبحت تضمُّ أكثر من سبعة عشر مليون إنسان يعملون في الأسواق والشَّركات والقِطاعات الاقتصاديَّة المزدهرة، وتقع المدينة على ضفاف وبَيْنَ عدد من الأنهر المهمَّة الَّتي تشكِّل مصدرًا رئيسًا للزِّراعة والصِّناعة والنُّمو السكَّاني. وأخيرًا المدينة العالَميَّة «هونج كونج»، «الميناء العطر»، الَّذي أخذ تسميته من «اختلاط مياه خليج «أبردين»، بالماء العذب المتدفق من نهر «اللؤلؤة»، كما يقال، أو من رائحة العطور الَّتي تطلقها مصانعه الممتدَّة «بحذاء ساحل كولون الشماليَّة». وقد أصبحت هذه المقاطعة، مستعمرة بريطانيَّة في العام 1839 إلى أن استعادتِ الصين ملكيَّتها في 1997م، تمتلك «حُريَّة عالية»، في الاقتصاد والتِّجارة والإدارة، وتقع على ساحل الصين الجنوبي، وتتميز بناطحات السَّحاب ومينائها الكبير، وتُعَدُّ مركزًا اقتصاديًّا مزدهرًا على مستوى العالَم، وُصفت بأنَّها مدينة «صغيرة عملاقة». «يتبع».
سعود بن علي الحارثي