لَطالَما كانتِ الأُسرةُ العُمانيَّة الحصنَ الأوَّل في بناء الأفراد وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، وهو دَوْر تزداد أهميَّته في ظلِّ التَّغيُّرات الفكريَّة والثَّقافيَّة الَّتي يشهدها العالَم اليوم. ومن هذا المنطلَق جاءتِ الرُّؤية السَّامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ لِتُؤكِّدَ على محوريَّة بناء الإنسان وتعزيز هُوِيَّته؛ باعتبار ذلك الأساسَ المَتين الَّذي يَضْمن للمُجتمع تماسُكَه واستقراره. فالتَّحوُّلات السَّريعة في أنماط الحياة والقِيَم تستوجبُ وجود منظومة أُسريَّة قادرة على تحصين الأفراد دُونَ فرضِ عُزلةٍ فكريَّة، بحيثُ ينشأُ جيلٌ متوازن، واعٍ بموروثه الثَّقافي، ومؤهَّلٍ للتَّفاعل مع العالَم بوعيٍ وثِقة، خصوصًا في ظلِّ الانفتاح الإعلامي والتكنولوجي الَّذي باتَ يفرض واقعًا جديدًا في تشكيل الوعي في كافَّة مُجتمعات المعمورة، وليس المُجتمع العُماني فحسب.
إنَّ التَّحصينَ الفِكري لا يعني العَزْلَ، بل القدرة على التَّفاعل مع الأفكار دُونَ الانجرافِ وراءها بلا وعي، فالأُسرة في عصرنا الحالي ليسَتْ مُجرَّد كيان يَقُومُ بتلقينِ المبادئ، بل يَجِبُ أنْ تكُونَ بيئةً تُنمِّي التَّفكيرَ الواعي، بحيثُ يُصبح الأبناء قادرين على تقييم المعلومات الَّتي يتعرضون لها يوميًّا، بدلًا من الطَّريقة التَّقليديَّة، الَّتي كانتِ التَّربية تعتمدُ فيها بشكلٍ كبير على أُسلوب (افعل ولا تفعل) دُونَ تقديمِ تفسيرٍ منطقي. لكن في عالَم اليوم لم يَعُدْ هذا الأُسلوب كافيًا. فالأبناء الَّذين لا يجدونَ إجابات مُقنِعة داخلَ الأُسرة، غالبًا ما يلجؤون إلى مصادرَ خارجيَّة قد لا تكُونَ مُحايدةً أو دقيقة، وهنا يكمنُ الفارقُ بَيْنَ أُسرة تُربِّي أبناءها على البحثِ والتَّمحيص، وأُخرى تعتمد على التَّلقين الَّذي قَدْ يؤدِّي إلى ضعف المناعة الفكريَّة، وجعلِ الأفرادِ أكثرَ عرضةً للتَّأثُّر بأيِّ فكرةٍ ضالَّة تُقدَّم لهم بأُسلوبٍ جذَّاب، ولذلك لا بُدَّ أنْ تكُونَ التَّربيةُ قائمةً على النِّقاشِ والانفتاح المنضبط، بحيثُ يشعرُ الأبناءُ أنَّ لدَيْهم مساحةً آمِنة للتَّساؤلِ والتَّفكير، دُونَ أنْ يؤدِّيَ ذلك إلى فقدانِ الهُوِيَّةِ أو الانحرافِ الفكري.
إنَّ المُشْكلةَ لا تكمنُ فقط في القِيَم الَّتي تسعَى الأُسرةُ لنقلِها، بل في الطَّريقة الَّتي تُقدَّم بها هذه القِيَم، فنحن اليوم أمامَ جيلٍ مختلف في أنماطِ تفكيرِه وطُرقِ تلقِّيه للمعلومات، خصوصًا في ظلِّ التَّفاعلِ الكبير مع منصَّاتِ التَّواصُلِ الاجتماعي، ما يستوجبُ أساليبَ تربيةٍ أكثر حداثةً ومرونة، فلم يَعُدْ كافيًا أنْ نخبرَ الأبناءَ بما هو صحيح وما هو خاطئ، بل يَجِبُ أنْ نعلِّمَهم كيف يُميِّزون بأنْفُسِهم بَيْنَ الحقائق والمغالطات، ففي عصر الإعلام الرَّقمي، أصبحتِ المعرفة متاحةً للجميع، لكن ليس كُلُّ ما هو متاحٌ صحيحًا أو نافعًا؛ وبالتَّالي فإنَّ التَّربيةَ الحديثة يَجِبُ أنْ تشملَ مهاراتِ التَّحليل، وتمكينِ الأبناءِ من تفكيكِ الأفكارِ المطروحة عَلَيْهم، بحيثُ لا يكُونُ التَّحصينُ الفكري مُجرَّدَ عمليَّةِ منْعٍ أو حَجْب، بل عمليَّةُ بناءِ قدرةٍ ذاتيَّة على التَّمييزِ والتَّقييم المستقلِّ، وهذا يتطلبُ من الأُسرةِ أنْ تتحوَّلَ إلى بيئةٍ حواريَّة، بحيثُ لا يقتصرُ دَوْرها على التَّوجيهِ، بل يمتدُّ لِيشملَ المشاركةَ في تكوينِ وعيِ الأبناءِ، من خلال نقاشاتٍ تفاعليَّة تجعلُهم أكثرَ قدرةً على مواجهةِ التيَّاراتِ الفكريَّة المختلفة.
ومن هذا المنطلَق يتأكَّدَ لنَا أنَّ بناءَ الإنسانِ الواعي هو الرَّكيزةُ الأساسُ لأيِّ مُجتمعٍ مستقرٍّ ومتقدِّم، وإذا كانتِ المنظومةُ التَّشريعيَّة، والمؤسَّساتُ التَّعليميَّة والدِّينيَّة والإعلاميَّة تؤدِّي دَوْرًا مُهمًّا في هذا البناءِ الَّذي يُواجِه الأفكار الضَّالَّة، فإنَّ الأُسرةَ تظلُّ العاملَ الأكثرَ تأثيرًا، فالمُجتمعاتُ لا تُواجِه التَّحدِّيات الفكريَّة عَبْرَ القوانين وحْدَها، بل عَبْرَ أفرادٍ يمتلكونَ القدرةَ على التَّفكير المستقلِّ، والتَّحليل النَّقدي، والتَّفاعل الواعي مع العالَم. ومن هُنَا فإنَّ مسؤوليَّةَ الأُسرةِ العُمانيَّة اليوم لا تقتصرُ على نقْلِ القِيَم، بل على تطويرِ أساليبَ جديدةٍ لغرسِها، بحيثُ تُصبح هذه القِيَمُ جزءًا أصيلًا من وعيِ الأفرادِ، لا مُجرَّدَ تعليماتٍ تُتَّبع دُونَ فَهْمٍ. فالمُجتمعُ القادر على مواجهةِ التَّغيُّرات ليس ذلك الَّذي يمنعُ الأفكارَ المُخالفة بالقوَّة، بل الَّذي يمتلكُ أفرادًا قادرين على مواجهتِها بالحجَّة والمَنطق، وهو ما يجعلُ دَوْرَ الأُسرةِ في التَّحصينِ الفكري أكثرَ أهميَّةً من أيِّ وقتٍ مضَى.