لا يُعَدُّ الوقف الخيري مجرَّد أداة لتقديم المساعدة للفقراء والمحتاجين وتوفير المأكل والمشرب والمسكن فقط، بل هو منظومة اجتماعيَّة متكاملة تهدف إلى بناء مُجتمع مترابط، قوي ومستدام. وهو بِدَوْره يمتدُّ لِيشملَ جوانب حياتيَّة متعدِّدة، من التَّعليم والصحَّة وتحسين مستوى البيئة، ممَّا يجعله أحَد أعمدة التَّنمية الاجتماعيَّة. ولتعزيزِ هذا النِّظام، يَجِبُ تشجيع الأفراد والمؤسَّسات على إنشاء أوقاف مبتكرة تتماشى مع احتياجات العصر ومتطلباته. ويُعَدُّ الوقف الخيري أداةً مهمَّة للمساهمة في علاج مُشْكلة البطالة إذا ما تمَّ وضع خطَّة استراتيجيَّة ليتمكَّنَ الوقف الخيري من طرح وظائف بما يتلاءم مع لاحتياجات سُوق العمل. فالبطالة تُعَدُّ من أخطر التَّحدِّيات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة الَّتي تواجِه المُجتمعات، والوقف يُمكِن أن يؤديَ دَوْرا محوريًّا في الحدِّ مِنْها وفتحِ فرص لكسبِ الرِّزق، سواء عن طريق طرح وظائف أو دعم ريادة الأعمال والمِهن والحِرف، نذكُر أمثلةً على ذلك
تمويل المشاريع الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة:
يُمكِن أن يستعانَ بريع استثمار الوقف الخيري لتمويلِ المشاريع المتناهية الصِّغر، والمشاريع الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة من قِبل العاطلين، مثل حلقات العمل كمحالِّ تصليح السيَّارات والأجهزة ومصانع التَّعبئة والتَّغليف. هذه المشاريع توفِّر فرص عمل مباشرة وتساعد في دعم الاقتصاد المحلِّي. ومن هذه التَّجارب، بنوك الأُسرة الَّتي تختصُّ بتمويل هذا النَّوع من المشاريع، ويكُونُ التَّمويل بتقديم قروض حسنة تدعم هؤلاء الشَّباب في بداية تأسيسهم لهذه المشاريع.
تدريب العاطلين عن العمل
نجد أنَّ هناك أوقافًا أوقفت على التَّعليم، وبعضها أوقفت على الفقراء، وبالتَّالي يُمكِن الاستعانة بريع استثمار هذه الأوقاف لتدريبِ العاطلين عن العمل لاكتساب مهارات تسهِّل لهم الحصول على وظائف بحسب احتياجات سُوق العمل. أو تُعينهم على ممارسة مِهنة معيَّنة.
دعم الإبداع والابتكار
تخصيص أوقاف لدعمِ المبتكرين وأصحاب الأفكار المميَّزة يُسهم في خلق مشاريع جديدة مبتكرة توفِّر فرص عمل. كما يُمكِن للأوقاف أن تحتضنَ برامج تسريع الأعمال للشَّباب الَّذين يملكون مهارات لكنَّهم يفتقرون إلى الموارد الماليَّة. كالشَّباب الَّذين يخترعون أجهزة وأدوات تحتاج لتصنيعٍ لتنزلَ في الأسواق مع التَّحوُّل الرَّقمي العالَمي، يُمكِن تخصيص أوقاف لإنشاء مراكز تدريب تقنيَّة أو شركات ناشئة في مجال التكنولوجيا، ممَّا يفتح المجال أمام الشَّباب للانخراط في وظائف رقميَّة ذات مستقبل واعد. هذا المجال يتطلب استثمارات محدودة نسبيًّا مقارنةً بمردوده الكبير. وكذلك الأعمال والصِّناعات الثَّقافيَّة مِثل الحِرف التَّقليديَّة، التَّصوير، التَّصميم، والفنون، يُمكِن أن تكُونَ مصدرًا مهمًّا للتَّوظيف، خصوصًا للشَّباب الموهوبِينَ. كما يُمكِن للوقف أن يموِّلَ حلقات العمل الفنيَّة كالأستوديوهات والمشاغل.
الاستثمار في التَّعليم العالي التَّخصُّصي:
يُمكِن للأوقاف دعمُ إنشاء كُليَّات ومعاهد تقدِّم تعليمًا تخصُّصيًّا مطلوبًا في سُوق العمل، ممَّا يساعد على تقليل الفجوة بَيْنَ المهارات الَّتي يمتلكها الخريجون واحتياجات السُّوق. مِثل الكُليَّات التقنيَّة التَّطبيقيَّة. كما يُمكِن تخصيص أوقاف لدعمِ الأبحاث الَّتي تستكشف احتياجات سُوق العمل وتُحدِّد القِطاعات الواعدة. هذا يُمكِن أن يوجِّهَ استثمارات الوقف إلى المجالات الأكثر تأثيرًا في الحدِّ من البطالة.
تمويل مشاريع الزِّراعة والإنتاج الغذائي:
في المُجتمعات الرِّيفيَّة، يُمكِن استخدام الأوقاف لتمويلِ مشاريع زراعيَّة جماعيَّة توفِّر وظائف للمزارعين والشَّباب العاطلين، إضافةً إلى المساهمة في تحقيق الأمن الغذائي. وكذلك يُمكِن للوقف الخيري أن يدعمَ صناعات الأغذية التَّابعة للزِّراعة كصناعة حفظ الأطعمة، كتجفيف الفواكه، والخضراوات، وصناعات الزيوت وغيرها من الصِّناعات التَّابعة للمزارع، فيؤمن الوقف الخيري أجهزة وأدوات تلك الحِرف والمِهن، ممَّا يؤمِّن فرصًا لزيادة دخل الفرد وتحسين مستواه المعيشي.
توفير أدوات ومعدَّات المِهن:
وللوقف الخيري دَوْر كبير في توفير معدَّات المِهن والحِرف، فيُمكِن وقفُ سُفن الصَّيد والَّتي يستطيع الشَّباب العاطلين عن العمل الاستفادة مِنْها في صَيْد السَّمك والتِّجارة بها، أو توفير سيَّارات وقفيَّة للعمل بها كسيَّارات أُجرة كوسيلةٍ لكسبِ الرِّزق، أو توفير مكائن خياطة أو غيرها من المعدَّات الَّتي تُعِين على كسبِ الرِّزق.
وفي تقديري أنَّه من المُهمِّ وضع خطَّة استراتيجيَّة في مجال الوقف الخيري لتقليلِ نسبة البطالة، وتوفير مصادر للدَّخل للمُحتاجين بدلًا من توفير الدَّعم المباشر لَهُم من مساكن وأكل وشرب، فإخراج المحتاجين من دائرة العوز إلى دائرة الإنتاج والمشاركة في التَّنمية أولى لتجنُّب خلقِ مُجتمع اتِّكالي على الوقفِ. فهذا يُعزِّز من الاستقرار الاجتماعي ويُقلِّل من الجريمة والانحراف. كما يُعزِّز من الثِّقة بالنَّفْس لدَى الأفراد ويُسهم في تحقيق ذواتهم... ودُمْتُم أبناء قومي سالِمِين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
Najwa.janahi@