الخميس 13 فبراير 2025 م - 14 شعبان 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : مشروع صهيوني فـي عباءة أميركية

الأربعاء - 12 فبراير 2025 06:35 م

رأي الوطن

50


في خطوةٍ تعكس ذهنيَّة استعماريَّة مُتجدِّدة، خرج الرَّئيس الأميركي دونالد ترامب بتصريحات صادمة حَوْلَ قِطاع غزَّة، متبِّنيًا خِطابًا يُعِيدُ إحياء أخطر مشاريع الاقتلاع والتَّهجير الَّتي قامتْ عَلَيْها عقيدة كيان الاحتلال الصهيوني، فالأمْرُ لم يَعُدْ مجرَّد انحياز سياسي تقليدي، أو حماية من الحساب، بل أضحَى إعلانًا عن شراكة مباشرة في تنفيذ مُخطَّط استيطاني قائم على تفريغ الأرض الفلسطينيَّة من سكَّانها تحت غطاء (السَّلام) و(الإدارة الصَّحيحة). لقَدْ تحوَّل الأمْرُ إلى إعادة إنتاج لمشاريع التَّهجير الَّتي شهدها القرن الماضي، حيثُ يتمُّ تصوير اقتلاع شَعب كامل من أرضه على أنَّه (ضرورة واقعيَّة). وما يزيد الأمْرُ خطورةً أنَّ هذه الرُّؤية تأتي في لحظة مفصليَّة، حيثُ يتعرض قِطاع غزَّة لعدوان غير مسبوق يستهدف بنيته الأساسيَّة وسكَّانه، وكأنَّ الحصار والتَّدمير الجماعي لَيْسا سوى مقدِّمة قسريَّة لدفعِ الفلسطينيِّين إلى قَبول التَّهجير كخيارٍ وحيد.

لم يكتفِ ترامب بالتَّرويج لهذا المشروع، بل ربطَه بابتزازٍ سياسي فجٍّ، عِندَما أعلنَ أنَّ حركة المقاوَمة حماس مطالَبة بإطلاق سراح الأسرَى الصَّهاينة بحلولِ السَّبت القادم، وإلَّا فإنَّ التَّصعيد سيكُونُ له وجْه آخر، وهو ما يُشكِّل انحيازًا كاملًا لمطالب الاحتلال، بل يُعِيدُ تعريف العلاقة بَيْنَ واشنطن وكيان الاحتلال الصهيوني على نَحْوٍ أكثر وضوحًا، حيثُ تحوَّلتْ واشنطن لطرفٍ مباشر في فرض سياسات العقوبات الجماعيَّة على الشَّعب الفلسطيني، فقَدْ تحوَّل أكثر من مليونَي فلسطيني في قِطاع غزَّة مجرَّد ورقة تفاوض يتمُّ التَّلاعب بها وفقًا لمتطلَّبات الاحتلال، حيثُ يتمُّ وضعُهم أمام خيارَيْنِ كلاهما جريمة، فإمَّا القَبول بالتَّهجير الجماعي، أو الاستمرار تحت نيران القصف والحصار، وهو ما يفضحُ المنطقَ الأميركي في التَّعامل مع القضيَّة الفلسطينيَّة، حيثُ لا مكانَ لحقوقِ الإنسان أو القانون الدّولي، بل هيمنة مُطْلقة تفرض معادلاتها عَبْرَ القوَّة العسكريَّة والابتزاز السِّياسي.

ورغم هذا الابتزاز الأميركي، فإنَّ الرَّدَّ الفلسطيني كان ولا يزال رفضًا قاطعًا لهذا المُخطَّط، حيثُ يدركُ الفلسطينيُّون أنَّ ما يُطرح اليوم ليس مجرَّد تهجير، بل محاولة لإنهاء وجودهم كُليًّا. فالفلسطيني، الَّذي ظلَّ لِعُقودٍ يتصدَّى للمجازر والحصار والاحتلال، لن يَقْبلَ بأن يتحوَّلَ إلى مجرَّد لاجئ جديد، خصوصًا أنَّ المقاوَمة بكُلِّ أطيافها أكَّدتْ أنَّها لن تسمحَ بتمرير أيِّ مُخطَّط يهدف إلى تفريغ غزَّة من سكَّانها، حتَّى لو استمرَّ العدوان لسنوات، وهو تأكيد على أنَّ إرادةَ الفلسطينيِّين أقوى من أيِّ مشروع استيطاني، وأنَّ مَن صمدَ في وجْه كُلِّ أشكال الحرب، لن يستسلمَ أمام خطَّة استعماريَّة تتخفَّى خلْفَ عبارات دبلوماسيَّة جوفاء، ويبقَى الموقف العربي الَّذي على الرَّغم من أنَّه رفضَ التَّهجير، إلَّا أنَّه يظلُّ بحاجةٍ إلى إرادة سياسيَّة صُلبة، تدركُ أنَّ المُخطَّط الصهيوني لن يتوقفَ عِندَ فلسطين، فأوهام هذا المشروع الاستيطاني تتغذَّى على فكرة التَّوسُّع من النِّيل إلى الفرات. لذا فمع هذا الضَّغط الأميركي المتزايد، باتتِ الدوَل العربيَّة أمام اختبار حقيقي، فإمَّا أنْ تكُونَ مواقفها الرَّافضة للتَّهجير جزءًا من مقاوَمة سياسيَّة مستمرَّة، وإمَّا أنْ تجدَ نَفْسَها في مواجهةٍ مباشرة مع مُخطَّطات استعماريَّة قَدْ تتجاوز فلسطين إلى أبعدَ من ذلك، فالتَّاريخ علَّمنا أنَّ التَّنازل أمام مشروع استيطاني لا يؤدِّي إلَّا إلى مزيدٍ من التَّمدُّد، وأنَّ الحلمَ الصهيوني، الَّذي بدأ بسرقة فلسطين، لن يتوقفَ ما لم يجدْ أمامه جدارًا عربيًّا صُلبًا يوقفه عِندَ حدِّه.

إنَّ ما يطرحه ترامب ليس مجرَّد فكرة انتخابيَّة أو رؤية سياسيَّة عابرة، بل هو جزء من مشروع استعماري متكامل، يهدف إلى إعادة تشكيل الخريطة السكَّانيَّة لفلسطين وفق المصالح الصهيونيَّة، وإذا لم يواجَهْ هذا المُخطَّط برفضٍ عربي ودولي صارم، فإنَّ السَّنوات القادمة قَدْ تشهدُ تنفيذ عمليَّات تهجير تدريجيَّة، يتمُّ تمريرها بعناوين (إعادة الإعمار) و(الاستقرار الإقليمي). لكن ما يجهلُه ترامب، كما تجاهلَتْه الإدارات الأميركيَّة السَّابقة، أنَّ الشَّعب الفلسطيني الَّذي صمدَ لأكثرَ من سبعين عامًا في وَجْهِ الاحتلال، لن يسمحَ بأنْ تتحوَّلَ غزَّة إلى نموذجٍ جديد من النَّكبة، وكما فشلتْ كُلُّ مشاريع التَّهجير السَّابقة في كسر إرادة الفلسطينيِّين، فإنَّ هذا المُخطَّط مهما بدا مدعومًا من القوى الكُبرى، لن يكُونَ مصيرُه سوى الفشل أمام صمود هذا الشَّعب.